بين الرئيس المالكي والرئيس العبادي خيط رفيع أرفع من شعرة معاوية خيط من الفاجعة والإخفاقات والإنتكاسات والنكبات الدموية واللعب على حبال السياسة العراقية تلك اللعبة التي كانت تغوي كل من يضع عينه على كرسي السلطة لتقوده بالنهاية إلى طريق مفجع ينتهي دائماً إما قتلاً بالرصاص كما حدث للمغفور له الملك فيصل الثاني وخاله عبد الإله أو تمثيلاً وسحلاً بالشوارع كما حصل لنوري السعيد في ثورة 14 تموز 1958 أو إعداماً فورياً كما حدث للزعيم عبدالكريم قاسم رحمه الله في إنقلاب 8 شباط 1963 أوالموت مسموماً كما تجرعه احمد حسن البكر 1982 أو الإعدام شنقاً كما كان مع طاغية العراق صدام في العام 2006 .
فبعد أكثر من 80 عاماً وبمباركة المملكة المتحدة البريطانية حينها تمكن خلالها المكون (السني) من تسيَّد واحتكار السلطة في العراق طوال تلك العقود تحط السياسة العراقية رحالها بعد 2003 مع جيل جديد من (شيعة) العراق الذين امتهنوا لعبة السياسة مجبرين بعد أن وضعتهم سلطة البعث الصدامي أمام خيارين صعبين لاثالث لهما إما الإستسلام لإرادة السلطة ليتم إعدامهم أو الخوض في معترك سياسة المعارضة فآثروا الخيار الثاني مجبرين فالتحقوا بركب المعارضة السلمية أولاً ثم حين لاحت الفرصة بعد التغيرات الدراماتيكية التي حدثت بعد الثورة الإيرانية 1979 وقيام الحرب العراقية الإيرانية 1980 والتي استمرت لثمان سنوات بكل ما حملته من موت ودماء وتدمير لكلا البلدين لأسباب كانت في معظمها أسباب إقليمية حركتها المصالح الخليجية والدولية حينها ثم تغيّر بوصلة النظام السوري الذي كان يقوده الرئيس بشار الأسد وجناح آخر لحزب لبعث في العام 1979 بعد فشل محاولة الوحدة الإندماجية بين القطرين الشقيقين سوريا والعراق وتحول سوريا إلى الصف الإيراني في حربه مع العراق فكان من نتائج هذه التغييرات قيام إيران وسوريا بفتح بلديهما لنشاطات المعارضة العراقية التي لم تكن تتعدى أجنحة مقاومة بالحزب الشيوعي العراقي الذي وجد نفسه فجأة خارج ساحة اللعبة السياسية التي دخلها في الجبهة القومية والوطنية التي شكلها البعث في العام 1973 لتكون إطاراً عملياً للمشاركة في قيادة السلطة قبل أن يكشر صدام عن أنيابه القومية وأطماعه الدكتاتورية لقيادة حكم العراق منفرداُ فأطيح بالحزب الشيوعي حينها ليتحول إلى قوة معارضة اظطرت لحمل السلاح فيما بعد وكذلك تنظيمات حزب الدعوة التي نظَّر لها وقادها تلميذ المرجعية النجيب السيد الشهيد الإمام محمد باقر الصدر في منتصف خمسينيات القرن الماضي ليواجه مصيره المحتوم أيضاً في العام 1980 بعد تنامى خطره الحوزوي والتثقيفي المعارض لسلطة البعث ليعدم في ضروف ما زالت غامضمة إلى الآن ثم ليلتحق بركبهما بعد ذلك آل الحكيم ويشكل السيد الشهيد محمد باقر الحكيم تنظيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في تشرين الثاني 1982 في إيران والذي تحول في ظل النظام الديمقراطي إلى المجلس الإسلامي الإعلى بعد أن انتفت الحاجة إلى ( الثورة ) وكانت تلك
الفصائل وملاكات تلك الأحزاب والتشكيلات وكوادرها في معظمها من الشباب الذين تعرض ذويهم للإعدام أو التغييب القسري كما هو الحال مع السيد المالكي والسيد العبادي فوجدا ضاليتهما في العمل السري لحزب الدعوة في إيران وسوريا وإقليم كوردستان .
وكما هو الحال مع السياسة كذلك الحال مع الدين فإذا كان الواقع العراقي في صبغته ويومياته لا يكون إلا في أحضان السياسة وديماغوجيتها كذلك الدين في العراق فالسياسي ومهما أوتي من قوة لايستطيع أن يمتهن فن السياسة من دون أن تكون عينه على حوزة النجف الأشرف فحتى صدام حين عجز عن إنجاز مهمته في القضاء على الإنتفاضة الشعبانية في العام 1991 أرسل لمن يأتي له بالمرجع الأعلى الإمام السيد الخوئي ليظهر معه من على شاشات تلفاز العراق في رسالة واضحة المقاصد للمعارضة بأنه يمسك بكل الحلول لأزمات العراق السياسية والدينية والإجتماعية وبعد العام 2003 حدث ما لم يكن يتوقعه أحد حين أطاح الأمريكان بدكتاتور العراق صدام فأصبحت الساحة مهيأة للجيل الجديد من معارضي السلطة كما حدث تماماً في العام 1920 وما تلاه من أعوام لاحقة بعد أن أطاحت بريطانيا بالإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم العراق بإسم الدين والخلافة الإسلامية فما أشبه اليوم بالبارحة .
وإذا كان صدام كإنموذج للحاكم العراقي المستبد قد سجل أسمه بتاريخ العراق كدكتاتور بصفحات ملئها بالدم والقتل واستباحة كل المحرمات وحتى الشرعية والأخلاقية وحروب عبثية حصد منها العراق ملايين القتلى والمفقودين وخراب تام في بنية العراق الإقتصادية والإجتماعية والسياسية حين كانت تركيا وإيران وسوريا والأردن يعبثون بأرض العراق المحاذية لهم كيفما يشاءوون وحوَّل العراق من بلد كان على أعتاب تجاوز حدود بلدان العالم الثالث ليدخل المضمار العالمي بقوة عسكرية واقتصادية لايستهان بها إلى بلد أزمات مستفحلة وفقر مدقع وجريمة وخراب في كل شيء وجعل من سلطة حزب البعث في العراق سلطة فوق القانون بل هي القانون ذاته وعسكر البلاد وحولها بالكامل إلى جيش من المقاتلين كانوا في أغلب الأحيان وفي سنوات متاخرة من عمر النظام لا يجدون لقمة الخبز وحتى أجرة النقل .
فأن السيد المالكي والسيد العبادي كلاهما سيسجل لهما التاريخ العراقي الحديث صفحات أخرى كونهما أختارا بل استقتلا للوصول إلى سدة الحكم في ضروف هي أسوء مايكون عليه العراق في تاريخه الحديث والمعاصرحيث التحديات الكبيرة التي أصبحت تهدد سيادة العراق ومستقبله وكان الأجدر بهما وهما الجديدين في عالم السياسة أن لايقتربا أبداً من حلم السلطة وكرسيها الغادر فإذا كان العراق في عهد سلطة الإحتلال البريطاني لم يكن يتجاوز تعداد شعبه الملايين القليلة التي لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة وإذا كان الحس العشائري فيه يغلب الحس الديني وإذا كان العالم لم يدخل حروبه المدوية العالمية وحروبها الباردة ولم يتعرف بعد على الإرهاب ولم يولد أسامة ابن لادن بعد ولم يسطر حينها فرانسيس فوكوياما كتابه (نهاية التاريخ) ولا صمؤيل هنتغتون كتابه ( صراع الحضارات)وليس من وجود لمصطلح ( الشرق الاوسط الجديد) فإذا كان العراق بكل هذا الأنبساط الذي وفره العالم له خلال تلك العقود الغابرة من تاريخه ولم ينجح ساسته في خلق النموذج الوطني الذي يسوده العدل والمساوات والسلام الإجتماعي فكيف بهما (المالكي والعبادي) وهما في معترك عالم يتلظى بحروبه الدموية وتحالفاته المشبوهة واستحقاقاته الإقليمية والوطنية والقومية والدينية وتسابقه النووي ثم
بروز معظلة الإرهاب التي اخترعها الغرب في واحدة من شطحاته الإيدلوجية في محاربة الإتحاد السوفيتي حينها حين أسس للقاعدة وتنظيمات العرب المجاهدين في بداية ثمانينات القرن الماضي والتي تفرع منها لاحقاً أخطر أنواع الإرهاب العالمي وهو إرهاب (داعش) التكفيري والذي وجد في أرض العراق وبإرادة أمريكية مفضوحة أرضاً خصبة بعد دعوة الرئيس الأمريكي بوش الابن الذي أمر بأن تحول أرض العراق إلى ساحة لاستقطاب الإرهاب العالمي والمجابهة معه على هذه الأرض ليمتد ذلك الإرهاب إلى اليوم حين أفرخ (داعش) وأخواتها ليستبيح كل أرض العراق ويعيث به فساداً وبأهله تقتيلاً !
بعد كل هذا مالذي سيخطه التاريخ عن الرئيسين المالكي والعبادي ؟
إذا كان الرئيس المالكي ( 1950- ) قد عرف عنه مهاراته الضيقة في ملاعبة خصومه المحليين والإقليمين ونجاحه في بعض جولات المنازلة السياسية مع خصومه حين كان يراهن على عامل الوقت وعدم وجود قواسم مشتركة يمكن أن يجتمع عليها خصومه ليتحدوا ضده ومنحته الجرأة لحظتها التاريخية حين وقع مرسوم إعدام الطاغية صدام منفرداً في عام 2006 ليفتتح به عهده وليكون محط أنظار الكثير من العراقيين لجرأته في التخلص من الطاغية حين اختفى يومها الكثير من ساسة العراق من أرض العراق تجنباً للنتائج الخطيرة التي كان سيترتب عليها إعدام صدام وحين وقف بالمرصاد لحلفائه في التحالف الوطني وانقلب عليهم وهم من أوصله لكرسي الحكم وشن عليهم حرباً بلا هواده بما عرف ب(صولة الفرسان) في 2007 ووقف نداً قوياً ومشاكساً لحلفائه التاريخيين (التحالف الكوردستاني) في مواضيع كركوك والمناطق المتنازع عليها وانتاج النفط وتصديره وميزانية الإقليم وبدأ يرسم خطوات حقيقية في سٌلم الحكم الدكتاتوري الذي يعشقه العراقيين فإنه سجل إخفاقات كثيرة ليس أقل منها إنها كلفت العراق سيادته حين اجتاحت تنظيمات (داعش) في الأيام الأخيرة من ولايته الثانية محافظة نينوى وبعض المدن والمحافظات العراقية الأخرى وكانت بغداد قاب قوسين أو أدنى من السقوط في حجر (داعش) لولا فتوى المرجعية التي أوقفت الزحف على بغداد وأعادة المبادرة بيد الجيش العراقي ثم ماحدث بعدها من نكبة أخرى وأحداث أليمة في (مجزرة سبايكر) والتي راح ضحيتها الاف العراقيين الذين استبيحت دمائهم خلال ساعات قليلة مضافاً لها إنه سيقف أمام التاريخ كرجل توفرت له الفرصة التاريخية لإعادة ترتيب أوضاع العراق السياسية والحكومية في أعقاب ماحدث بعد يوم 10 حزيران 2014 وما حصل من تمزق للخارطة السياسية في العراق وبقاء أمريكا متفرجة على ما يحصل به من أحداث فكانت فرصة تاريخية لاتعوض بقيادته إنقلاب عسكري يطيح بكل العملية السياسية التي أوصلت العراق لما هو عليه اليوم ويبدأ من الصفر عمليه سياسية تعيد ترتيب البيت السياسي العراقي إلى حين .
أما توأمه في الحزب والمعارضة والفكر الرئيس العبادي فإنه لم يصدق حلفائه حين أطاحوا برأس المالكي وجاؤوا به وهو الذي لم يفز حتى بالإنتخابات التشريعية لولا نظام (سانت ليغو) الإنتخابي ليكون رئيساً لوزراء العراق بشروطهم القاسية والتي قبلها بكل إذعان فقط ليشبع نهم السلطة الذي يتربص به وهاهو العراق في عهد السيد العبادي يبدأ رحلته الدموية بحادثة جريمة الصقلاوية والسجر التي راح ضحيتها المئات من أفراد القوات المسلحة والذين كانوا
محاصرين لأيام دون أن تمد لهم الحكومة يد الخلاص من موت كان يحدق بهم بعد قراره الفاشل بإيقاف القصف على المناطق الساخنة ومناطق الإشتباك مع (داعش) ليزداد التخبط والقرارات الغير مدروسة ليتحول العراق إلى شتات بعد إصداره إوامره المرتجلة في محاربة (داعش) وربط مصيره ومصير العراق بالقرار الأمريكي المتذبذب .
أن الرئيس العبادي الذي يحاول الإبتعاد بنفسه كلياً وبمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية من ظلال سلفه الرئيس المالكي يقع في فخ حلفائه وأصدقائه الذين أوصلوه لكرسي السلطة وتحت سقف شروطهم التي لن تنتهي وفي يوم قريب سيجد العبادي نفسه وحيداً غريباً بين فرقاء السياسة الذي لا يجمعهم غير مصالحهم الفئوية والحزبية بعد أن يحصلوا على كل ما يريدون ولن يكون معه في الساحة غير أمريكا العدو المشترك للعراقيين على مختلف شرائحهم وانتمائاتهم والتي لن تقدم له غير نصائح قديمة مستهلكة وطلعات جوية لا تتناغم أبداً مع خطر الإرهاب وقوته وأهدافه المفترضة على أرض الواقع العراقي .
بين المالكي والعبادي وأمريكا سيسجل التاريخ العراقي الحديث صفحات أخرى يسطر احداثها ووقائعها بحروف من نكبات ونكسات وخسارات ودماء سياسو الصدفة الذين جمعتهم المعارضة للدكتاتورية رفاقاً للسلاح وفرقتهم طموحات السلطة والكرسي الذي ينتظر من يشغله كل أربعة سنوات قصيرة بعمر الزمن طويلة بأوجاع العراقيين .