مرت مؤخرا الذكرى السنوية الأولى لرحيل القوات الأمريكية من العراق والذي أمتد لقرابة التسعة أعوام ، ورغم الجدل الذي أحاط هذا الأنسحاب ، أمريكيا وعراقيا وإقليميا ، إلا أنه تم في موعده المحدد ، أمريكيا أنشغل المحللون السياسيون والعسكريون كثيرا بهذا الأمر ، وحاول أغلبهم الخروج بنتيجة تقيميية لما آلت إليه نتائج غزو وأحتلال العراق ، والجميع يعلم أن الولايات المتحدة خسرت رسميا في العراق 4474 قتيلا و أكثر من 33 الف جريح وأنفقت حوالي تريليون دولار ، هذا بحسب وزارة الدفاع الأمريكية ومعهد بروكنغر ، أقليميا كان القلق الأبرز من دول الخليج العربي التي أعربت عن مخاوفها بشكل علني وضمني من تحالفات اقوى وكبر واشمل بين بغداد وطهران ، وأقليميا أيضا كان بمثابة العرس السياسي والعسكري بالنسبة لإيران حيث فتح آفاق أكبر لمد حجم نفوذها الممتد أصلا في العراق ، عراقيا كان الأكراد ومازالوا أكثر الأطراف رفضا لإنسحاب القوات ألأمريكية محذرين من إمكانية وقوع مشكلات في المناطق المتنازع عليها بين الأكراد والحكومة المركزية العراقية ببغداد ، بل أن الأكراد كانوا متخوفين من أختلال الأوضاع في العراق الى منحدرات أسوأ بعد الأنسحاب الأمريكي ؛ وعبرّ رئيس أقليم كردستان العراق مسعود البرزاني في 25 أكتوبر 2011 عن قلقه بشأن الأمن في بقية العراق الغارق في أعمال تفجير وهجمات يومية تقوم بها الجماعات المتمردة. حيث قال “على حد معرفتنا فسماؤنا مكشوفة وحدودنا البحرية والبرية ليست محمية بشكل كامل وعليه فيجب دراسة موقفنا الأمني جيدا للوقاية من أي خرق امني”، في مقابل ذلك أصرّت القوى المرتبطة سياسيا أو ايدلوجيا بإيران على تنفيذ وعد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بسحب قوات بلاده في 31 ديسمبر من عام 2011م معتبرين هذا الأنسحاب مكسبا كبيرا لهم وللعراق ، فيما أعتبرته فصائل المقاومة العراقية سواء المسلحة أم السياسية هزيمة نكراء للمشروع الأمريكي وللقوة العسكرية الأولى في العالم وأنتصارا يحق للعراقيين الأحتفاء به وطنيا .
الخبير العسكري بمركز الدراسات الإستراتيجية والدولية في واشنطن أنتوني كوردسمان علق على أستطلاع للرأي قام به مركز (بيو) لإبحاث الرأي العام أظهر موافقة ورضا الشعب الأمريكي لقرار الأنسحاب ، فقال ” لقد خاضت القوات الأمريكية تلك الحرب في عام 2004 لأسباب خاطئة حيث ثبت بالدليل القاطع أن العراق لم يكن يمتلك صواريخ طويلة المدى وأسلحة دمار شامل كما لم يكن النظام العراقي مرتبطا بشكل أو بآخر بتنظيم القاعدة أو بأي هجمات تم شنها على الولايات المتحدة أو حلفائها، وكل ما حققته الغزوة الأمريكية هو تدمير قدرات القوات المسلحة العراقية على ردع إيران دون أن يكون لدى الولايات المتحدة أي خطة واضحة لاستعادة الأمن والنظام من خلال نظام حكم ديمقراطي لا يستهدف عزل وتهميش السّنّة”. ولم يغب عن بال الخبير الأمريكي قوله أن قوات بلاده خلقت في العراق كيانا “هشا” للديمقراطية قد يقود العراق الى العودة لنظام حكم “الرجل القوي الواحد” ، وهو ما تشير إليه أتهامات الكثير من القوى المشتركة في العملية السياسية العراقية ، سواء الكردية أو العربية ، لطريقة حكم وإدارة الدولة من قبل رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي .
بعد عام من الأنسحاب الأمريكي هناك شبه أجماع داخل أروقة الإدارات السياسية والعسكرية الأمريكية ، بإن الولايات المتحدة خسرت الحرب في العراق إستراتيجيا ليس في عهد الرئيس أوباما ، بل منذ أن قررت الشروع بهذه الحرب من الناحية العملية ، وأن الأنسحاب الذي مرّ عليه عام الآن إنما شكلّ نهاية لحرب باهضة التكاليف ولعل ما حدث لإمريكا فعليا يتطابق ومقولة الشخصية البريطانية السياسية الكبيرة ونستون تشرشل الشهيرة : “من النادر في التاريخ البشري أن حدث هذا الكم الهائل من التضحيات الغالية والنفيسة لتحقيق ذلك القدر الهزيل من النتائج” ، ومع هزالة النتائج المتحققة تبقي أيضا عقدة لن تمحى بسهولة لدى الشعب الأمريكي من أنهم مسؤولون عن تدمير بلد عريق ومهم أستراتيجيا كالعراق وقتل وتشريد شعبه وغادروه دون أن يمكنوه من إعادة هيكلة نفسه وتأسيسي مؤسساته التي تحفظ كيانه وأمنه ، إضافة إلى ما تركته الحرب الأمريكية على العراق من صورة أظهرت للعالم افتقار القيادة السياسية الأمريكية للقدرة على ضبط النفس ونزوعها إلى استخدام القوة كأداة لإدارة الصراع في السياسة الدولية.
هذه آراء المعادين أو المعارضين ربما للحرب الأمريكية على العراق وهم الأكثرية على أية حال ، فما بال الذين كانوا يؤيدونها أو على سدة القرار الأمريكي حينها ؟ مؤخرا ، وتحديدا في شهر يوليو 2012 ، نقلت صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية عن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس ، قولها عن الأوضاع في العراق والشرق الأوسط من أن بلادها يجب أن تعيد تدخلها فيما يجري في العراق ومنه إلى الشرق الأوسط ، فهي ترى ان “الولايات المتحدة ليست مجرد بلد ، ويجب ان تستخدم نفوذها ومساعداتها لإنشاء مؤسسات ديمقراطية شاملة في الشرق الأوسط ، إن المشكلة الرئيسية في المنطقة هي غياب المؤسسات القادرة على سد الفجوة بين السنة والشيعة وحماية حقوق المرأة والأقليات”. ودعت رايس خلال المقابلة إلى ، ” إعادة الإنخراط مع العراق نظراً لأهميته الجغرافية الإستراتيجية، والفوضى التي تجتاح جيرانه، ونفوذ إيران المدمّر”. ورغم معرفة رايس بخسائر بلادها المتنوعة في العراق خلال سني الأحتلال وبعدها إلا أنها دافعت عن سياسة الرئيس الأسبق للولايات المتحدة جورج دبليو بوش فقالت ” ان التاريخ سيؤكد ان الرئيس بوش كان محقا عندما يكشف ان العراق الجديد المنبثق عن الحرب سيغير وجه الشرق الاوسط ، وانه سيكون اول ديموقراطية متعددة الاتنيات ومتعددة الطوائف في العالم العربي”.
السيدة رايس يبدو أنها في غيبوبة أعلامية أو سياسية ، حيث لم يحدث اي شي من الذي تحدثت عنه ، فما زال العراق بعد عشر سنوات من احتلاله يعاني من تسيّد الأحزاب الطائفية وصراع خطيرعلى السلطة وانعدام شبه كامل للخدمات وهو يتربع بكل كفاءة على رأس قائمة ألدول الأكثر فسادا في العالم. لكن تصريحات رايس تظهر من جديد أن جناح المحافظين الجدد ما زال الأخطر على أوضاع المنطقة وما زالت أحلامهم بتدمير دول الوطن العربي تحت مظلة الشرق الأوسط الجديد قائمة لديهم ، وما زالت قناعاتهم ن العراق يمثل حجر الزاوية لكل متغير يمكن أن يكون لصالحهم في المنطقة ، وهو ما يدعو لمعالجة موضوع العراق وطنيا و أقليميا ودوليا بسرعة كبيرة حتى لا تتكرر سيناريوهات الوجود الأمريكي على أراضيه تحت حجج ومسميات عدة كثيرة .