18 ديسمبر، 2024 4:59 م

أمريكا من فشل سياسة الاحتواء المزدوج إلى فشل المواجهة المباشرة؟

أمريكا من فشل سياسة الاحتواء المزدوج إلى فشل المواجهة المباشرة؟

يتحدث كثير من المحللين والمنظرين والدارسين والسياسيين عن انتشار القوات الأمريكية على الحدود العراقية السورية وما هي تداعيات وجود هذه القوات على العراق؟ بل هناك من يقف اليوم مدثر بهذا الكيان الاستعماري متفاعل معه ومتمسك به، من أجل ما تسمى (عملية التغيير) وكأننا بانتظار مسرحية تراجيدية قادمة ستفوح منها روائح نتنة، تشبه روائح الجثث التي تفسخت تحت أنقاض مدينة الموصل ومثيلاتها في مدن العراق الأخرى وسوريا. لهذا فإن كل من يضع آماله على أمريكا عليه أن يوقن أن هذه الآمال وذاك النظام في واشنطن الذي اتبعه هو سر ضعفنا وينبوع فشلنا وصانع دمارنا وتخلفنا.
عموما بالنسبة لأصحاب وجهة النظر المتفائلة بصدد حكومة البيت الأبيض، من الأفضل لا يضعوا كل آمالهم عليهم، فقد جربنا وما زالت السياسة الخارجية الأمريكية اتجاه الشرق الأوسط المليئة بالأكاذيب والخداع، لأن الأمريكان لديهم خطط بعيدة المدى. في الوقت نفسه الأمريكان يكذبون بكل شيء وانهم يخشون انهيار العملية السياسية في العراق، ولا تريد امريكا أن تعترف بالفشل. ثم أن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية هي التنصل عن الاتفاقات، وهذا أمر محسوب، وهي حقيقة ترتبط باستراتيجية امريكا في المنطقة، تلك الاستراتيجية التي تتغير باستمرار وبحسب مجال المناورات واللعب مع العملاء، والغباء يكمن بمن لا يفهم السياقات التاريخية لهذه السياسة.
أولا: لماذا سحبت أمريكا قواتها من شمال شرق سوريا عام 2018؟
قرار سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا عام 2018، وقد تم الاعتراض عليه من قبل كبار ضباط البنتاغون بحجة تفادي تكرار الخطأ الذي ارتكبه الرئيس أوباما عندما سحب القوات الأمريكية من العراق، لكن السياسة الأمريكية لا تقف عند حدود رأي جنرالات العسكر، ويبدو أن الرئيس ترامب حينها أخذ بنصح مستشاريه في الأمن القومي لتقدير حجم الخطر الداهم على هذه القوات للمرحلة القادمة بعد صدور تقرير معهد ترانسفور الذي تنبأ بانعطافة سير الأحداث وانتقالها من حروب وكالة الى تصادم جيوش متواجدة على الساحة السورية.
لقد أشرنا عدة مرات الى اقتراب نهاية حروب الوكالة وسبقنا المعهد المذكور بتقييم أوضاع المنطقة بعد انتهاء توظيف الإرهاب الداعشي، كما أشرنا الى تخبط السياسة الأمريكية في العراق وعدم اتعاضها من الأخطاء الاسترتيجية ابتداء من غزو العراق والانسحاب منه عسكريا ثم السماح لإيران بالتدخل في بعض الدول العربية. الواقع يشير بوضوح أن الولايات المتحدة الأمريكية بقرار سحب قواتها من سوريا عام 2018 كانت تحاول أن تنأى بنفسها عن تعقيدات الساحة السورية بالاهتمام والتركيز على مصالحها وأمنها القومي، كذلك تعزيز قواعدها الدائمة في الشرق الأوسط بما يضمن حماية إسرائيل وتحقيق التوازن الاستراتيجي الدولي. لاسيما أن قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا أثار استغرابا وجدلا لدى الدول المتحالفة معها ضد الإرهاب في وقتها.
ثانيا: دواعي حشد القوات الأمريكية على الحدود العراقية السورية؟
ربما ستفرض بعض المعادلات واقعا جديد على ساحة الشرق الأوسط وتحديدا في العراق، لأسباب تتجاوز حدود أحلام الحكام بمقتضى مخططات استعمارية جديدة تتناسب مع تغيرات موازين القوى العالمية، وأمريكا بارعة في إثارة الفتن وسفك انهار الدماء وهي تحاول محاكمة الشعوب على حوادث تجاوز تلفيقها العقل البشري ولم تعد أكثر من مادة استثمار شيطاني ضمن مشاريع الخرافات الأسطورية بالتقاء الأهداف مع الحركة الصهيونية. فبلا شك وجود الأمريكان في العراق نكسة وكارثة على العراقيين أولا، وبالتالي امتد دمارها على المنطقة العربية. رسميّا بعد عام 2003، الولايات المتحدة الأمريكية تؤدي دورها في العراق وتماشيا مع مستلزمات السياسة الإسرائيلية، فكل خطوة محسوبة بدقة التمهيد لها وحساب التداعيات والنتائج بفرض أسوء الاحتمالات.
ثالثا: موقف المحور الروسي-الإيراني:
في الحقيقة لا يوجد اصلا حلف بين روسيا وإيران وكل ما يربطهما مصالح مشتركة في سوريا وبعض العلاقات الاقتصادية. روسيا عندما دخلت سوريا كان هدفها الضغط على أمريكا وأوربا في ملفات أخرى تخص اوكرانيا وغيرها. ومن الطبيعي روسيا لا تريد أن تخرج من سوريا بدون تحقيق أهدافها، لأن الروس لديهم مشاكل كثيرة مع أمريكا والغرب، وتحاول تصفيرها على حساب سوريا، لاسيما أن روسيا تستخدم إيران في هذا الموضوع ومتى تتحقق أهداف روسيا ستترك إيران. لقد خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2018 وصرح علنا إذا ما تعرضت إسرائيل لأي عدوان عسكري ستكون روسيا إلى جانبها. وهذا تدركه إيران وتعي جيدا ما هو الموقف الروسي. أما إيران فإنها تراهن على قوتها ورصيدها المتقدم من الميليشيات وخصوصا في لبنان وحماس في غزة وحشود الميليشيات في سوريا وقوات بشار الأسد. وإذا تطورت الأمور لديها صواريخ تهدد دول الخليج والقواعد الأمريكية في الشرق الأوسط.
رابعا: الموقف التركي:
كان التدخل التركي في سوريا، من خلال فتح أبواب تركيا للجماعات الأصولية والإرهابية وعبورهم إلى سوريا، ولمستوى إنشاء معسكرات تدريب وإيواء لتلك الجماعات في تركيا، وقد نتج عن ذلك دمار سوريا وتحميل الشعب السوري أوزار وأعباء أثقلت كاهله. لكن يبدو أن الدور التركي تجاه سوريا قد شهد مؤخرًا تغيرات حادة داخليا وخارجيا، وهو الأمر الذي انعكس على سياسة أردوغان التي تبدو وكأنها محاولة لإنقاذ موقفه إقليميا ودوليا. بالتالي فإن التحركات العسكرية الأمريكية الحالية على الحدود العراقية السورية، ستفرض سياسات جديدة على تركيا محكومة بأدوار جديدة، وهو ما رسم خريطة التحركات الجديدة وذلك من خلال التطورات والتداعيات، حيث جاء تحشيد القوات الأمريكية وإمساكها بخيوط المشهد لتقلب موازين المعادلة السياسية بالمنطقة.
خامسا: موقف نظام بشار الأسد:
بدون أي شك إن نظام بشار الأسد لا يشكل خطر على إسرائيل لدرجة اعتبار زواله هو الخطر الحقيقي إذ لا يوجد بديل عنه حاليا يمكن أن يؤمن حدود الكيان الصهيوني. الرئيس السوري يعلم ذلك جيدا بحنكته الموروثة عن أبيه وتلقين السياسة الروسية لدوره ضمن معادلات المنطقة.
وتـأسيسا لما تقدم نضع الفرضيات التالية:
الفرضية الأولى:
في خضم التشابك القائم حاليا تعتبر امريكا موضوع التقسيم من أهم المشاريع التي وضعتها للمنطقة، وفق مخطط وضعته الإدارة الأمريكية وقد تم الاتفاق عليه بين أمريكا وإيران وبموافقة بعض دول الخليج. المهم إن التقسيم تم جعله واقعا على الأرض سواء في سوريا أو العراق. ثم يليه تقسيم لكل المنطقة وفق خطوات أخرى.
الفرضية الثانية:
قد يكون موضوع التقسيم خرافة من قبل كاتب المقال، وإن انتشار القوات الأمريكية بهذا الشكل مجرد استعراض عضلات، سيما أن مجمل العمليات تدخل في حساب الاستنزاف وتعتبر رسائل نارية بمضمونها الواضح لإيران أن تسحب قدراتها الهجومية.
الفرضية الثالثة:
سنفترض إن الانسحاب الأمريكي الذي جرى عام 2018 وعودة تمركز القوات الأمريكية اليوم تم بالتنسيق مع روسيا، هذه الفرضيّة تعني موافقة ضمنيّة على إعادة هيكلة نظام بشار الأسد ومنح روسيا مكافئة ضم الأراضي السورية التي تحتلها القوات الأمريكية.
الفرضية الرابعة:
والتي تتوافق مع الجانب التركي ضمن سلسلة إجراءات عسكرية واسعة تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على تركيا ضمن حلف الأطلسي، وعدم السماح لتركيا أن تذهب لتحالف استراتيجي مع روسيا وربما حتى إيران بما سيشكل خطر كبير على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، على ما يبدو تم اختيار المحافظة على تماسك حلف الأطلسي وتلبية مطالب الحليف التركي لدرجة الاستعجال بتزويد القوات التركية منظومة الدفاع الصاروخية (باتريوت) على وجه السرعة في عام 2018.
الفرضية الخامسة:
فرضيّة التسوية الشاملة والتنسيق بين روسيا وتركيا وأمريكا وإيران، هذه الفرضية هي الأكثر احتمالا للواقع، بموجب هذه الفرضية يمكن لجميع إطراف التسوية أن تحقق بعض من أهدافها.
إذن هل سيشهد العالم فصلا دراماتيكيّا ساخنا، يتمثل في تحولات كبيرة ولن يكون أحدا في المنطقة بعيدا عن هذه التحولات، ولن يبقى متماسكا مع تأثيرات ما يحدث على الساحة الحدودية؟
إن تحشد وتمركز القوات الأمريكية بهذه الاستراتيجية العسكرية يعتبر خطوة خطيرة جدا، وإن أي حسابات غير دقيقة ستذهب المنطقة الى حرب إقليميّة تبدأ بتصادم الدول المتواجدة على الأرض السورية. الحقيقة التي لابد من توضيحها هي أن منطقة الحدود العراقية السورية تشهد صراعات إقليمية تتقاطع فيها أجندات ومشاريع لا تضع وزنا للشعوب التي تعيش عليها، لقد أدى هذا الصراع الى تدمير شامل لمدن كبيرة ومناطق واسعة في العراق وسوريا، وكذلك إحداث تغيرات غير منسجمة على المستوى السياسي والاجتماعي بما في ذلك التغيير الديموغرافي وتهجير الملايين من مناطقهم التاريخية الى دول أوربا وغيرها.
الأهم في كل هذا السيناريو والنتائج هو ما بعده؟ كيف سيكون شكل المنطقة والشرق الأوسط برمته وماهي المخاطر التي ستنتج عن الفوضى؟ لن تنتهي الحرب بانتصار أي طرف وإنما ستنتهي منطقة الشرق الأوسط الى فوضى عارمة وأحداث تغيير جذرية متعاقبة وكما يلي:
1. الولايات المتحدة الأمريكية تتوقع بأن الحرب هي التي ستحل كل مشاكل المنطقة وتفرض واقع جديد يرغم الجميع على القبول به. لكن لا أحد يتكهن في معرفة نتائج الحرب وتوسعها وآثارها المدمرة حتى لو كانت أمريكا أعظم قوة بالعالم.
2. التقسيم واقع وهدف أساسي للأمريكان وسينتج عنه الحرب الإقليمية المتوقعة أو اتفاق كبير بين الدول. ربما الموقف حاليا يتعلق بماجري تحت الطاولة من تفاهم.
3. خطر الإرهاب الإسلاموي المتربص.
4. الأخطر يكمن بالصراعات الداخلية التي ستعقب الحرب، لاسيما أن بلدان هذه المنطقة متعددة الطوائف والقوميات.
5. عليه سيكون مكمن الخطر الذي يصعب على أمريكا أن تحتويه وهي التي فشلت في خلق استقرار بالعراق بعد اجتياحه.
6. تبقى مسألة اشتعال الحرب الإقليمية قائمة ما لم يتم فض الاشتباك في سوريا والذهاب الى تسوية شاملة وفق مقررات جنيف يتم بموجبها انسحاب جميع القوات الأجنبية منها.
7. خطر القدرات الصاروخية لحزب الله في لبنان الخارج عن مسؤولية الدول الشرعية وليس من ضمن مؤسساتها العسكرية.
8. عام 2018 أدلى وزير دفاع الكيان الصهيوني حينها (ليبرمان) بتصريح خطير جدا مخاطبا محور المقاومة قال” إذا أمطرت عندنا ستحدث عندكم فيضانات” جاء ذلك على اعقاب تصريحات نارية من قبل بعض قادة الحرس الثوري الايراني.
9. يجب على كل مسؤول في العراق وسوريا ولبنان أن يحسبون حسابهم بأن السياسة الأمريكية تضعهم دروع لها وسوف ينالهم التدمير الشامل.
ثمة تفاصيل أخرى متعددة لم يتسع لها المقال.

بقلم: أستاذ الفكر السياسي
الدكتور: أنمار نزار الدروبي