28 ديسمبر، 2024 7:24 م

أمريكا خسرت العراق … والعراق كسب ايران /3

أمريكا خسرت العراق … والعراق كسب ايران /3

في الحَلَقَتيّْنِ السَّابقتيّْنِ من هذا المقال، قدَّمتُ إِيجازاً بمواقف الإِدارة الأَمريكيَّة، التي تمادت في إِهمال مطالب الشَّعب العراقي، لتحقيق الأَمن و الاستقرار في بلاده. و تعاونها مع الإِرهاب العالمي، من أَجل تحقيق مكاسبها الاستراتيجيَّة في المنطقة. و أَستكملُ الموضوع في هذه الحَلَقَة موضِّحاً، بأَنَّ على العراق أَنّْ يأخذَ موقفاً سياسيّاً و استراتيجيّاً، ليصحِّحَ الخلل الذي وقع فيه، جرّاء الخضوع لسياسات الإِدارة الأَميركيَّة. و من نافلة القول أّنّْ أَفتتحَ هذه الحَلَقَة، بالمُقتَبَس التّالي من كتاب (الصراعات الدولية المعاصرة/ د. عبد الخالق عبد الله):

(ففي حين أَنَّ صراع الشرق و الغرب، صراع القوى النووية العظمى فيما بيّنها، فإِنَّ صراع الشمال و الجنوب، هو صراع الضعفاء و الفقراء ضد الأَقوياء و الأَغنياء في العالم. أَيّ أَنَّ الصّراع بيّن الشمال و الجنوب، يجسِّد نضال الشعوب المُضطهدة و المُستغلة و التابعة (و المُستَعمَرَة سابقاً)، ضدَّ الدُّول الاستعماريَّة و الإِمبرياليَّة، التي كانت و ما زالت، تنهب و تستغل ثروات و خيرات الشعوب، و تحاول فرض إِرادتها و هيّمنتها على العالم.)(انتهى).

إِذَنّْ التَّخلص من الهيَّمنة الأَمريكيَّة على العراق، يتطلَّب التَّفكير بعقليَّة استراتيجيَّة، تضع في الحسبان افتراضيّْن هُما:

الأَوَّل؛ المضَارُّ التي تحصلُ للعراق، إِذا ما مَضى قُدُماً، بالاعتماد على أَمريكا و محورها.

و الافتراض الثَّاني؛ المنافع الّتي تَعودُ عليه، جرَّاء تحيّْيد موقفه مع أَمريكا.

بالنِّسبة للجواب على الافتراض الأَوَّل؛ فإِنَّ الواقع العَمليّْ أَثبتَ، أَنّْ لا جَدوى تُرتَجى من بقاء العراق مُرتبطاً بأَمريكا.

و أَمَّا جواب الافتراض الثَّاني؛ فمن مصلحة الشَّعب العراقي، التَّعاون مع إِيرانَ، بعدما ذاقَ كأْسَ المرارة، على يَدِ السياسَة الأَمريكيَّة و حلفاء أَمريكا، من عرب و تُرك و غيرهم؟.

كما أَنَّ الافتراض الثَّاني، يقودُنا الى التَّفكير بمجموعة من العوامل، إِذا ما نظرنا إِليها بنظّْرة استراتيجيّة فاحصة شاملة، ستُولِّد عندنا مجموعة من القناعات، تُقدِّم لنا مفتاحَ الإِجابة على السؤال آنف الذِّكر. و يُمكنُ استعراض تلك العوامل باختصار شديد، كما يلي:

1. لا أَحد ينكر أَثر البعد العقائدي في بناء العلاقات الدُّولية. و العراق و إِيران يشتركان في بعد عقائدي واحد، هو الإِسلام المحمّدي الصَّحيح، و ليّس (التَّأَسلم الوهابيّْ). و الإِسلام الصَّحيح مشترك آيديولوجي، يحتضن المذاهب الإِسلاميَّة الخَمّْسة، على العكس من (التَّأَسلم الوهابيّ) الأُحادي النَّظرة، الذي لا يقبل إِلاَّ مَنْ يُؤمن بأَفكاره فقط، و يَنظُرُ الى المختلفين معه بأَنَّهم كفَرة.

لقدّْ قَدَّمَتْ القوَّات المُسلَّحة العراقيَّة، و قوَّات الحشّْد الشَّعبي، أَثناء معارك تحرير العديد من المناطق العراقية (ذات الصِّبغة السُنيَّة)، من براثن تنظيم داعش الاجرامي، أَروع الأمثلة لتأكيد الرُّوح الإِنسانيَّة، و الوحدة الإِسلاميَّة و الوطنيَّة المشتركة، بين أَبناء العراق النُّجباء.

و لا أُريد أَنّْ أَقفَ طويلاً عنّْد هذه النقطة، فقدّْ بَاتَ معروفاً عنّْد كلِّ العالم، أَنَّ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، قدّْ حَمَلوا أَرواحهم على الأَكفِّ، لنُصّْرَةِ إِخوانهم السُنَّة، و تحرير مناطقهم في المحافظات السُنيَّة، من ظلم عصابات داعش. و الجميع شَاهَدَ كيّْفَ أَنَّ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، تعاملوا بأَخلاق الإِسلام، مع إِخوانهم السُنَّة، دون أَنّْ تَغرَّهم نشوَةَ الانتصار، بسلوكِ أَيّ سلوكٍ خاطئ. فأَبناء الشِيّْعة تعالَوا على جراحَاتهم، التي أَحدَثَتها مجّْزرة (سبايكر)، و عاملوا إِخوانهم السُنَّة، كما تعامل رسول الله (ص) مع النَّاس عندما فتحَ مكّة.

كما لا يَخفَى على أَحدٍّ، موقفُ أَبناءَ العراق الشِيّْعة، مع إِخوانهم أَبناءِ العراق السُنَّة، عنّْدما استَقبلوا العوائلَ السُنّْية النازحة من المناطق السُنيَّة، و آووهُم في مدينة كربلاء و النَّجف المقدَّستيْن، و في الحلة و الدِّيوانيَّة. و كيّف أَنَّهم فتحوا لهم بيُوتَهم و حسينياتهم لاستقبالهم فيها. لا بلّ أَكثر من ذلك، فقدّْ قامت إِدارات العتَبات العلويَّة و الحُسينيَّة و العبَّاسيَّة، بفتح مدينة الزائرين في محافظة كربلاء المقدَّسة، و فتح فنادق مدن النجف و كربلاء، لاستقبال النَّازحين و إِيوائهم بكلّ احترام و تقّْدير. إِنَّ المُشترك العقائديّْ بيّن الشيّْعة و السُنَّة، كان الدَّافع وراء التغلُّب على تلك المُشكلة الإِنسانيَّة الكبيّْرة الطارئة.

و كذلك عنّْ طريق المشترك العقائدي، يُمكن إِقامة أَوثَق العلاقات بيّْن العراق و إِيرانَ، تحت مظلّة الإِسلام الكبيّْرة. فشيّْعة العراق و شيّْعة إِيرانَ، لا يوجد لديهما عائق فكّْري أو نفّْسي، من احتضان كلِّ أَبناء الإِسلام. بيّْنما العكس من ذلك، نجدُ أَنَّ دولَ المحور الوهابيّْ التَّكفيريّْ، لا تستطيع استقطاب أَتباع أَيّْ مذّْهبٍ، من المذَّاهب الإِسلاميَّة الخمّْسة. فالمحور الوهابيّ أُحادي الهويَّة، مثّْلما هو أُحاديّ البُعد العقائدي، و لا يقبل هذا الفكّر المُنحرف، سوى من يُؤمن بأَفكاره فقط.

(أَمّا التتابع الظاهري لآيديولوجيّات علمانيَّة، مثل الآيديولوجيَّة القوميَّة و الآيديولوجيّات الاشتراكيَّة، فلم تكُنّْ سوى صورة مؤقتَّة، على السَّطح الظَّاهري للحدَث السِياسيّ، داخل العالم الإِسلامي، في حين أَنَّ الإِسلام كعقيّْدة دينيَّة، و كأَرضيَّة مقاومة فكريَّة، كان يشهدُ حالة تراكم طرديّْ، على الصَّعيد البُنيويّ و الجوهريّ للأَحداث، ظَلَّ يتصاعدُ ضمن ظُهور الوَعيّْ الدِّينيّْ السِياسيّْ الجديد، منذُ نهايَة عقد السَّبعينيَّات، في حيّْن أَنَّ الآيديولوجيّْات العلمانيَّة الأُخرى، لَمّْ يكُنّْ وجودها بنيويَّاً و جوهريَّاً، داخل الحدَث السِياسيّ المعاصر في العالم الإِسلامي.)(العالم الإِسلامي في الاستراتيجيَّات المعاصرة/ د. علاء طاهر).

في الحَلَقَةِ الرَّابعةِ و الأَخيرة من هذا المقال، سأُكمِلُ إِنّْ شاءَ اللهُ تعالى، مناقشةَ ما تبَقى مِنْ عواملَ أُخرى، تُقدِّمُ لنا عنّْد تَفهُمِها بعُمّْقٍ، رؤْيةً استراتيجيَّةً

لاتِّخاذ قراراتٍ سياسيَّةٍ، تنقُلُ العراقَ الى وَضعٍ أَكثرَ مَنَعَةٍ و قوَّةٍ، مِنْ وضّْعهِ الحاليّْ، المُتَّسِمُ بالضَّعفِ و التَّفكُكِ و الارتبَاكِ، بسبَبِ ارتبَاطِ سياسَتهِ العامَّةِ، بالفَلَكِ السياسيّْ الأَمريكيّْ. و اللهُ سُبحانَهُ مِنْ وراءِ القَصّْد.