لقد تجاوز نفاق الأحزاب الشيعية الحاكمة جميع حدود القدرة على (بلعه). ولست أنا ولا غيري من يُكذب خوفَها على وحدة العراق وسيادته وكرامة شعبه، ورفضَها تدخلَ أمريكا في شؤونه الداخلية، بل التاريخ، بالوقائع والأحداث الموثقة الثابتة، هو الذي يفعل ذلك.
صوت نوابهم، وحدهم، بحماس منقطع النظير، وبعصبية وانفعال، ((163 من 225 نائبا بعد خروج رفاقهم الكورد والسنة من القاعة)) على قرار برلماني “يرفض قرار الكونجرس بالتعامل مع بعض مكونات الشعب العراقي بعيدا عن الحكومة الاتحادية، ويعتبره تدخلا سافراً في الشأن العراقي، وخرقا للقوانين والأعراف الدولية، ونقضا لالتزام الولايات المتحدة في اتفاقية الإطار الإستراتيجية بضمان وحدة العراق واستقلاله”.
والحقيقة أن سبب هذا الغضب غير مفهوم. فالكونغرس الأمريكي لم يفعل شيئا سوى أنه خصص مساعدات بقيمة 715 مليون دولار من ميزانية البنتاغون لعام 2016 لدعم الجيش العراقي والقوات الأخرى المرتبطة بالحكومة العراقية في المعركة ضد تنظيم الدولة. ولكنه، فقط، ربط تنفيذ ذلك بشروط، منها أن ” تعطي الحكومة العراقية للأقليات غير الشيعية دورا في قيادة البلاد، خلال ثلاثة أشهر بعد إقرار القانون، وأن تنهي دعمها للميليشيات”. وفي حالة عدم التزام الحكومة العراقية بذلك، فقط وليس قبل ذلك، ” سوف يجري تجميد 75 في المائة من تلك المساعدات، ويُرسل أكثر من 60 في المائة منها مباشرة للأكراد والسنة.”
فما الخطأ في ذلك؟ ولماذا هم غاضبون إذا كانوا صادقين في عزمهم على الوفاء بوعودهم للشعب العراقي بأن تُصلح حكومة قائد (التغيير) حيدر العبادي ما أفسدته حكومة قائد (التدمير) نوري المالكي، فتوفر العدالة وتنصف المظلوم، وتلجم المليشيات؟
وفوق هذا وذاك فإن قرارات الكونغرس تفرضها المصالح العليا للولايات المتحدة في المنطقة، لا حبا بسواد عيون السنة والكورد، ولا رغبة في مشاكسة أعضاء التحالف الوطني (الحليف) المزمن للأمريكان والحاكم بأفضالهم ودعمهم من زمان، ولا سعيا لإغضاب السيد السيستاني، بأي حال.
وفي النهاية فكل إنسان حر بماله، يصرفه كما يشاء، وفق ما يراه مناسبا ونافعا، وليس ما يراه المنتفعون به، أو المتضررون.
شيء آخر. هل هانت (العِشرة) على ثلاثة أرباع القادة والزعماء العراقيين الذين لولا (ماما أمريكا) لظلوا إلى الآن يتسكعون في مقاهي لندن ودمشق وطهران، يتقوتون بفُتات المساعدات الإنسانية الذي تتصدق به عليهم دول اللجوء؟!.
وشيء آخر أيضا. كثيرون ممن وقع على بيان البرلمان العراقي الغاضب كانوا، وربما ما زالوا، يتلقون مكافآت ورواتب وإعانات من الأمريكان، مباشرة أو مداورة، لتمويل جرائد أو إذاعات وفضائيات، ولشراء المعجبين والمؤيدين والناخبين. أنا شخصيا أعرف بعضهم. فعلى من يضحكون؟
وأصل النفاق في بيان البرلمان العراقي عائدٌ إلى أيام المعارضة العراقية السابقة، وبالتحديد إلى عام 1992، يوم انعقد مؤتمر فينا الذي تمخض عن المؤتمر الوطني الموحد، والذي كان مشروعا أمريكيا من ألفه إلى يائه. وما عدا الحزبين الكورديين فكل قادته الأقوياء الآخرين كانوا من أعضاء الفريق الإيراني العراقي. وهم، الى اليوم، ومن ثلاث عشرة سنة، أصحاب فخامة وسيادة. رؤساء ووزراء ونواب وسفراء، ومن ذوي الملايين وربما المليارات بكرم أمريكا وبركاتها.
ثم في عام 2002 جاء مؤتمر لندن الذي عينتهم فيه أمريكا، رسميا، وعلنا، حلفاء كانت في حاجة ملحة إليهم غطاءً عراقيا لغزوها المنتظر للعراق، ووكلاء عنها لوراثة صدام حسين.
وكان المجلس الأعلى للثورة الإسلامية والكثير من أشقائه أعضاء الفريق الإيراني العراقي يتقاتلون فيما بينهم على الحصص الممكنة من الكعكة الأمريكية المغرية، وهم متأكدون من عدم جدية إدارة جورج بوش الأب، وإدارة كلنتون، في دخول حرب شاملة لإسقاط نظام صدام، وأنها لا تريد من المعارضة العراقية أكثر من إزعاج صدام حسين وإضعافه، وجمع المعلومات عن قواه العسكرية والاقتصادية لحسابها، رغم أن كثيرين منهم كانوا يزعمون، يومها، بأنهم لا يعملون مع الأمريكان عمالة ولا تبعية، بل من أجل تحرير العراق من الديكتاتورية، فقط لا غير، وكانوا يرفعون شعار: “لا لضرب العراق، ولا لغزو العراق، نعم لإسقاط النظام!!”.
إن أمريكا اليوم، بقرار الكونغرس الأخير، “تنقض التزاماتها بموجب اتفاقية الإطار الإستراتيجية بضمان وحدة العراق واستقلاله”، و” تتدخل تدخلا سافراً في الشأن العراقي، وتخرق القوانين والأعراف الدولية”، ولكنها لم تكن تتدخل في الشؤون الداخلية للعراق حين قسَّمت العراق، عمليا وواقعيا، وبرضاهم وتبريكاتهم، في مؤتمر فينا 1992، وفي المؤتمرات التي جاءت بعده، نيويورك في 1999، ولندن في 2002، إلى ثلاث جمهوريات، شيعية قوية وصاحبة سلطة كاسحة في الجزء العربي من الوطن، وكوردية شبه مستقلة ومسلحة في الشمال، وجمهورية سنية (فضائية) معوقة، وتابعة ذليلة لقادة نظام المحاصصة، من أيام مؤتمر فينا، إلى مجلس الحكم سيء الصيت، وإلى جمهورية حزب الدعوة وأشقائه في التحالف الوطني العتيد.
ولم تكن أمريكا تتدخل في شؤون العراق الداخلية حين كانت تغدق الملايين من الدولارات، مباشرة وعلنا، رواتب ومكافآت ونفقات تنقلات وإقامة وصحافة وإذاعات وفضائيات لرئيس المجلس وأعضائه وأشقائه المجاهدين.
ولم تكن تتدخل في الشؤون العراقية حين كانت تنسق معهم، باستمرار، وتتشاور، قبل سقوط النظام وبعده، لاختيار الأشخاص الذين يستحقون الرضى ليكونوا على رأس الوليمة.
وحين حصل الغزو ودخلوا إلى العراق مع دبابات الاحتلال الأمريكي لم ينتفض السيد السيستاني، غضبا، ولا المجلس الأعلى، ولا حزب الدعوة، ولا بدر، ولا دولة الولي الفقيه، على هذا التدخل الأمريكي الفاضح والصارخ في الشؤون العراقية الداخلية، كما يفعلون اليوم.
وحين كان بول بريمر يرسل المراسيل، ذهبا وإيابا، إلى المرجعية، للتشاور وأخذ النصيحة في الدستور والقوانين وتعيينات الرؤساء والوزراء والسفراء والمدراء، كان مجاهدون معممون يقبلون وجنتيه ويأخذونه بالأحضان الساخنة، ويولمون له ولائم باذخة، علنا وعلى شاشات التلفزيون، بلا خوف ولا حياء.
أمريكا تتدخل في شؤون العراق الداخلية وتنتهك سيادته وكرامة شعبه، أما إيران العزيزة فاحتلالها (الأخوي) يحفظ سيادة الوطن، ويحمي كرامة شعبه المسكين. فإن لم يكن هذا نفاقا فكيف يكون النفاق؟!