ما أصعب أن ينطلق صوت إنذار الحريق متواصلاً في البناية-البرج مباغتاً. خرق الصوت أذنك بينما كنت
مسترخياً تفكر في أمر ما. لم يعد بإمكانك أن تتبع من أين بدأت رحلة التفكير، اندمجت على ما يبدو في مشروع ذهني أخذك بعيداً بعيداً، عبرت المحيط، وصلت بلاداً بعيدة أخرى. مشيت في شوارع سبق أن مشيتها، طلعت عليك وجوه كنت تحسبها قد دخلت خانة النسيان، لم يكن مشروعاً محدد المعالم، ولم تكن رحلة الخيال مخططة كالعادة، كانت شطحة في فضاء مفتوح دون حدود. تبدأ الشطحة من فكرة أو حدث هنا، قد ينقلك إلى شارع قريب، فتتذكر السوبرماركت الذي تسوقت منه في هذا الشارع، فيذكرك بسوبرماركت وتتذكر موقف الحافلة القريب الذي اخترت بسببه أن تتسوق منه وليس من غيره حتى لا تحمل أغراضك وتمشي لتصل موقف الحافلة، فيذكرك التفكير بموقف الحافلة هنا بموقف مثله في بلاد أبعد، فتتذكر أنك وقفت في ذلك الموقف مع أصدقاء جمعتهم الدراسة والحنين إلى بلاد بعيدة متناثرة على هذه الكرة الأرضية، كنتم تتبادلون الحديث كلٌ عمّا يتمناه في تلك اللحظة، يحاول كلٌّ إجابة سؤال مطروح عن الشيء الذي يجعله يتمنى أن يمتلك بساط ريح لينقله إلى حيث يشتاق، فتنقلك الشطحة إلى درب متعرج بين حارة الطفولة وذلك الحقل حيث الخضروات الصيفية والفزاعة المنصوبة في طرفه الشرقي تقابل أختها المنصوبة في الطرف الغربي. دخلت في شطحة لا تعرف من أين بدأت، ولكن الفزاعة في الجهة الغربية بثيابها الرثة وقامتها كانت أقرب إليك من فنجان القهوة الذي يشكو برودته بعد أن هجرته في مسلسل الشطحات المتداخلة التي ألقيت نفسك في بحرها طائعاً.
ها هو جهاز إنذار الحريق بعويله المتواصل يتركك معلقاً في الحقل في مواجهة الفزاعة، صار الصوت فزاعة أنْسَتك كل التفاصيل، صارت الاستجابة العفوية للإنذار وجه الحاضر الوحيد، صارت المثير الذي ينتظر منك الاستجابة، الموضوع الذي التهم كل التفاصيل، الصوت الذي يقول: جاك الموت يا تارك الصلاة، جاءك همّ المسارعة لمغادرة الشقة والطابق عبر سلم الدرج، بعد أن توقفت المصاعد عن العمل، الأحرى بعد أن أوقفها جرس الإنذار عن العمل.
أسوأ ما في هذا الزعيق المتواصل أنه سيجعلك تنزل من الطابق الثالث والعشرين إلى الطابق الأرضي حيث سيتجمع من نزلوا في بهو البناية-البرج، ولا مجال في هذا الليل البارد للخروج إلى الشارع. مصيبتك تهون عندما تفكر بسكان الطابق الرابع والثلاثين. هل تمتثل للتعليمات وتبدأ بالنزول؟ تخرج إلى الممر، سكان الشقق الأخرى في الطابق أصبحوا في الممر. قد يكون الأمر عادياً كما في مرات سابقة، مجرد طبخة نُسِيَت على الموقد فاحترقت فانطلق منها دخان أطلق جهاز الإنذار، أو أن أحداً اشتهى في هذا الليل أن يقلي البطاطا فوقع بعض الزيت على سطح الموقد الكهربائي فانطلق الصوت المزعج، قد، وقد، وقد، ثم تأتي “وقد” الأخرى، قد يكون الأمر جدّياً. لا تريد أن تتحمل مسؤولية التهوين، هناك أطفال. تمسك بيد حفيدك وتبدؤون بالنزول.
الزوجان الجديدان في الشقة المجاورة يتساءلان “وماذا بعد؟”، وحفيداك وصديقاهما اللذان لم يمضِ على وصولهما مع أمهما في زيارة انتظرها الصغير طويلاً. لم يخرج أحد من الشقق السبعة الأخرى في الطابق، هل رجحوا “قد” المريحة؟ ولكنك لا تستطيع ترجيحها لأن الرعب سيسطر على المشهد وعلى الأطفال تحديداً.
كلما نزلتم طابقاً نظر الأطفال إلى لوحة رقم الطابق المعلقة على باب الخروج على الدرج، وحسبوا كم يبقى حتى نصل، تندمج مع الصغير الذي يمسك بيدك في تمرين رياضي يتمثل في حساب كم نزلنا وكم يبقى. الغريب أنك لا تشعر بآلام الركبة من النزول، هذا مؤشر إيجابي، هناك شيء يدعو للفرح، كنت تتعب من النزول كتعب الصعود في المنحدرات والدرج، هل هذا مدعاة للاطمئنان بأن تلك العضلة المختبئة في الصدر تعمل جيداً بعد أن استقرت في أوعيتها أربع شبكات لفتح الأوعية المتضيقة؟ تتذكر المتشائل وتضحك، فيسألك الصغير عن سبب الضحك فلا تجيب. هذا الصغير لا يمل من السؤال، لا ينفع معه التطنيش، يعيد السؤال فتقول له أنك مسرور بأنك تمسك بيده وتنزلان معاً.
تتنفسوا الصعداء، كما يقال، عند الوصول إلى البهو عبر مخرج الكراج الأرضي للبناية، ثم تعبرون إلى بهو الاستقبال، حيث الأمن وأفراد طاقم الإطفاء يتحركون ويتحدثون عبر أجهزتهم اللاسلكية. تجد محلاً للجلوس بعد أن يفسح لك شاب مكاناً إلى جواره. الجميع منشغل بمراقبة طاقم الإطفاء والعبارات التي تنطلق من أجهزة اللاسلكي التي يحملونها بأيديهم على أمل التقاط إشارة تفيد باقتراب العودة إلى الراحة التي انقطعت أو إكمال حديث كان قد بدأ أو أي مشروع حوار ساخن أو بارد جاء جهاز الإنذار ليشكل بالنسبة له “فاصل ونواصل”، فمتى سنواصل.
اندمج الصغار في الحالة وانتهت حالة الارتباك التي أصابتهم، وبدأوا بطرح أسئلة فضولية عن كل شيء يرونه. الصغير معك يريد أن يرى سيارة الإطفاء الكبيرة التي تصل أضواؤها عبر واجهة البهو، تأخذه إلى زاوية يمكن من خلالها أن يرى السيارة، فيحدثك بانفعال عن التمرين الذي عملوه في المدرسة ليعلموهم الإخلاء حين يسمعون صوت جهاز إنذار الحريق، ويضيف أنه سيحدث معلمته وأصحابه في المدرسة غداً عما يرى.
الكبار اندمجوا في أحاديث، وجوه جديدة تراها لأول مرة، نافذة تعارف ضيقة انفتحت قد تؤدي إلى التعرف على وجه جديد، مجرد مرحباً، أهلاً، من الصعب إقامة العلاقات في مثل هذا التجمع البشري، البرج السكاني رغم الاستقرار النسبي في سكانه لا يختلف كثيراً عن محطة السفر، الناس هنا ليسوا كالناس هناك، لا مجال لصباح الخير جار، تفضل فنجان قهوة يا جار، بالكاد “هاي”، “الجو جميل اليوم” “ليكن نهارك طيباً، وأنت أيضاً”، والكل غارق في عمله ودنياه الخاصة.
يوقظك الصوت الذي يقول إن الإنذار قد انتهى ويمكن العودة إلى الشقق. تقترح على أفراد العائلة عدم الاستعجال، سيكون ضغط على المصاعد الأربعة، فلا داعي للعجلة.
أفراد طاقم الإطفاء يتجمعون استعداداً للخروج. تخطر ببالك الفكرة، إنها فرصة ليلتقط الأطفال صورة مع أفراد الطاقم، يجب ألاّ تقول رجال الإطفاء (Firemen)، فهناك امرأة بينهم، إنهم طاقم الإطفاء، كما توضح إحدى الأمهات لابنها. يريدون صورة مع هؤلاء الذين يحلم الصغير دائماً بأدوارهم ويتحدث عنهم، لكنه يا للمفاجأة يرفض الانضمام لأخته وللأطفال الآخرين الذين يقبلون على التقاط الصور. أمرك عجيب يا صغيري! هل اكتفيت بالمراقبة واستمتعت بمتابعة كل التفاصيل وخزنتها في عقلك لتتحدث عنها غداً لمعلمتك وأصدقائك؟
يتفاعل الأطفال مع أفراد الطاقم، ويأخذون وقتهم، والصغير يراقب ويسمع بانتباه شديد يظهر على عينيه المركزتين نحو من يتحدث من أفراد الطاقم، سيحمل قصة يرويها في الغد.