الثلاثين عاماً التي قضيناها في ظل حكم صدام حسين، كان أغلب العراقيين يملكون التلفاز العادي، الذي يظهر لنا الصورة بالأسود والأبيض، كأنما زي موحد، يتساوى فيه جميع الممثلين، ومقدمي البرامج، ومن يظهرون على شاشة تلفزيون جمهورية العراق، القناة الوحيدة التي كنا نضطر ان نتابعها ليلاً ونهار، ولا زلت أتذكر الفرحة التي تغتمرني عندما تصبح الساعة الخامسة عصراً، لكي نشاهد أفلام كارتون ال” كابتن ماجد”.
هذه الساعة هي الفسحة الوحيدة، التي كنا نرتاح فيها من متابعة السياسة، والأخبار، ومن مشاهدة الذين يلبسون اللون الزيتوني، وهم لا يفعلون شيئاً سوى التهليل والتطبيل للقائد الضرورة، خصوصاً في نشرة الساعة التاسعة مساءاً، التي تخصص للرئيس وبصورة كاملة، لمهاجمة اسرائيل وأميركا والفرس، امام نفس الشخصيات التي نراها يومياً، من وزراء، وأعضاء القيادة القطرية، ومسؤولي حزب البعث المنحل .
تلك الخربطات التي عاش فيها النظام البعثي، جعلتني أعترف بان السياسة لا توجد فيها اي خطوط حمراء، وأن الممارسة السياسية الجديدة، بعد العام ٢٠٠٣، جعلتني أتيقن من ذلك لانها وضعت الدين والأخلاق على المحك، وجعلتهما أشياء ثانوية لا يجب الالتفات أليها اذا ما تعارضت مع المصالح الشخصية للكيانات والأحزاب التي شاركت في الحكم الجديد.
قد يتبادر الى ذهن القارئ مسألة ان فترة الـ ١٢ عاماً الماضية، كانت امتداداً لتلك الحقبة أم هناك اختلاف ؟
أكيد أن اللعبة التي نمر بها هي نفسها، التي كانت تدار في ذلك الزمن، مع اختلاف في الشخوص، وتعدد الزعامات والقنوات، التي تهلهل وتطبل لكل واحد منهم، واختلاف ألوان الملابس، لمن أمتهنوا هذه المهنة لكسب الرأي العام، وتشابه كبير بالمنهج، والاستراتيجيات، والاتباع العاطفي والمصلحي وتغلبها على العقل الفردي والجمعي.
هذه الكيانات والأحزاب السياسية؛ وضعت حلم بناء الدولة الجديدة في مهب الريح، وعمدت في قبال ذلك الى بناء أمبراطورياتها، ومؤسساتها الحزبية، بواسطة الأموال التي نهبوها، وسرقوها، من قوت الشعب، والتي كانت من المفروض ان تعمل على تغيير هذا الواقع المزري، وها هم اليوم يثيرون الزوابع، من أجل معالجة الأخطاء التي تسببوا بها، عن طريق رواتب الموظفين، والمتقاعدين، بدون أي حياء أو خجل .
واقع الحال؛ يفرض علينا أن نقف مع بلدنا، للخروج من هذه المحنة، وهو ما لا يختلف عليه أحد لكن؛ عندما نجردهم أولاً، من جميع الامتيازات الخيالية التي خصصوها لأنفسهم، ممن هم بدرجة مدير عام، ووكيل وزير، والمستشارين، والوزراء، ناهيك عن رئاسات الوزراء، والجمهورية، والبرلمان، وكثير من العناوين التي أمتهنت السياسة، في وقت ما، وبقيت تتمتع بالامتيازات، والحمايات، والسيارات، الى الان، بسبب المحسوبية، والحزبية، التي هي قريبة منهم، وتجري فيهم كمجرى الدم في الوريد.
ما يؤكد ذلك هو أنقضاء عام كامل على التظاهرات، والدعوات الى الإصلاح، الا أننا لا نتلقى أي أذان صاغية، وربما تكون صماء لا تسمع، أو لا تريد السمع، وهذه جميعها تؤدي الى نتيجة واحدة تتعلق بأمتيازاتهم التي من الممكن أن تكون هي الخطوط الحمراء .