بين رفوف مكتبة ضخمة لجدٍ مجتهد، معتدل، غير متطرف، مكتبة زاخرة بشتى العناوين، تفسير، فقه، شعر، قصص ومجلدات كبيرة لمجلات مصرية تُعنى بالأدب والفنون، كان لزاماً علينا نحن ابناء أب شيوعي مطارد، ومفصول سياسي، في بيئة يغلب عليها دعاة ومبشرون أن ننشأ، مطعونون بالولاء، قال ضابط النفوس “انتم البغادة* مشكوك في عراقيتكم قد تُسَفرون”، في بلاد تُحكم بالحديد والنار تتداخل مفاهيم الوطنية بعشق الحزب والقائد، لاصوت يعلو فوقهما، الناس في الكرادة وحتى يومنا هذا كبقية العراقيين جدليون، مرت عليهم أحزاب وتيارات، شيوعية، قومية، بعثية ودينية فغلب عليهم الجدال والصراع، كان عليّ ان أختار، بين إرث والد وشقيق أكبر هارب من جمهورية الخوف لبلاد الغال، وتديّن أبناء عمٍ، دعاة بإيمان عميق، صادق وراسخ، خطفتهم المشانق، وغيبت أجسادهم المقابر دون أثر، فكان الأخير، إختياراً، صبيّ تدغدغ مخيلته خطابات الدين، وعود الخلاص وجنان الله، حالم ببندقية تُسهم بإسقاط نظام تسلطي شمولي. في بيئة طاردة، تشعرك بعدم الإنتماء، تحوم حولك الريبة والشكوك لابد أن تلجأ لعناوين هوية فرعية، باحثاً عن نصر معنوي تزهو به وتجادل ثقاة بأدلة وبراهين نقلية وعقلية تثبت إننا الحق دون بقية مذاهب الدين الواحد، فكان جعفر الصادق والمذاهب الأربعة لأسد حيدر، محمود أبو رية في أضواءه على السنة المحمدية، والإبحار في أمهات الكتب والمراجع التي تمنح “قوة” وتثبت أحقية، كان تشيع محمد التيجاني نصراً، وعرساً كبيراً، يتسلل حفيد عبد الرزاق المقرم أحد محققي الشيعة ليلاً حاملاً ما تم تهريبه إستنساخاً من كتب الشيخ التونسي “ثم أهتديت” وبقية سلسلته، تُقرأ ثم تُحرق، يقول أتيتك بالجدليات، الخلافيات كما ترغب وتحب.هذه السطور ليست جلداً للذات، هيّ لشباب كلا الطائفتين، لا نصر في التأريخ، لا فخار، ذهب رجاله دون رجعة، علينا الفوّز بالحاضر، ولوج المستقبل بعقل آخر، إنسانيون، قبل أن ندين بالإسلام، ونتمذهب، الحياة تستحق الكثير غير تأجيج غبار الصحراء بحثاً عن كراهية، لم أتغير كثيراً، لم أبتعد، أعتز بإرث شيعي عظيم في الفقه والأدب والفنون وأفخر، كما للآخر الحق ذاته، محبٌ، لايلغي الآخر، ناقد كل فعل سوء، عقل جوال لاتحتكره فكرة.
* نسبة للقب العائلة “البغدادي”