قال تعالى في سورة العلق1/5 ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)).
أكد باحثون من جامعة ليفربول” إن القراءة المستمرة تساعد في تخفيف الآلام المزمنة، ولها تأثيرات إيجابية على المخ تماثل العلاج السلوكي المعرفي، وهو أحد طرق العلاج النفسي الشهيرة، يستخدم في الكثير من الحالات منها التعامل مع الآلام المزمنة. وأوضحوا وفقاً لصحيفة (ديلي ميل البريطانية)، أنه من خلال إثارة ذكريات الماضي السعيدة يمكن للقراءة أن تساعد الذين يعانون من الآلام المزمنة على نسيان الألم الذي يعانون منه في الوقت الراهن. وقارن الباحثون بين أشخاص استمتعوا بقراءة كتب كجزء من مجموعة فيما يعرف بالقراءة المشتركة، وأشخاص آخرين يخضعون للعلاج السلوكي المعرفي، فوجدوا أن القراءة سمحت للقارئ باستحضار ذكريات إيجابية من الماضي الذي كانوا لا يعانون فيه من آلامهم المزمنة الحالية”.
في السبعينيات من القرن الماضي كان المثقفون العراقيون يرددون قولا جميلا يعبر عن مقدار تعلقهم بالكتاب، (الكتاب يُؤلف في مصر، ويُطبع في لبنان ويُقرأ في العراق”، وهذه حقيقة بادية للعيان، مع ان فيها بعض التجني على المؤلفين والمطابع العراقية، فالعراق بلد عريق وخصب المعرفة، وأنتج الكثير من العلماء والمفكرين، وصدرت الآلاف من العناوين في مختلف مجالات العلم والمعرفة، منها تأليف وترجمة وتحقيق كتب التراث، ولأن العراق معروف بأنه المنبع الرئيس للشعر، لذا تم تأليف المئات من الدواوين الشعرية وتحقيقها. صحيح ان أكثرية الكتب كانت تؤلف في مصر، واكثر المطبوعات تطبع في بيروت وكان سعرها هو الأقل في الوطن العربي، لكن كانت الكثير من الدول العربية تنتج وتطبع الكتب ولكن أقل مما هي عليه في مصر ولبنان. ناهيك عما ألفه كبار الكتاب العراقيين الكبار مثل المحامي عباس العزاوي، وعبد الرزاق الحسني، وعلي الوردي، عبد الله سويلم السامرائي، وأحمد سوسة وأمين المميز وعبد الرحمن التكريتي وجاسم الحجية والعشرات غيرهم، يضاف الى ذلك نشر مذكرات السياسيين العراقيين التي كانت تستهوي القراء جدا، لأنها تكشف الكثير من الأسرار، وتسلط الضوء على جانب مظلم في إدارة الدولة العراقية، يجهلها معظم العراقيون.
تجسدت القفزة الثقافية في إنشاء عندما دار الشؤون الثقافية في العراق، فقد قامت الدار بتحقيق المئات من كتب التراث العربي، وترجمة ما يوازيها من الكتب العلمية والأدبية، ونشرها بأسعار زهيدة جدا. وكانت الدار مع زميلتها دار الحكمة يواكبان الإصدارات العالمية اولا بأول، مثلا عندما أنتشرت كتب الباراسيكولوجي صدر في العراق الكثير منها، ومن ضمنها (سلسلة الباراسيكولوجي)، وعندما سادت كتب العولمة في العالم، واكبتها الداران فأصدرتا الكثير من الكتب ذات العلاقة ترجمة وتأليفا.
كان لمعارض الكتب التي أقيمت على أرضية معرض بغداد الدولي شأنا كبيرا في إنتشار الكتاب العربي، شاركت المئات من دور النشر العربية والأجنبية في المعرض، ووفرت للقاريء العراقي كل ما يشتهي من فروع المعرفة وبأسعار تنافسية، وكان إفتتاح هذه المعارض يمثل مناسبة مهمة ينتظرها المثقفون العراقيون بلهفة وإهتمام، وكذلك أصحاب الكتب الذين ينتهزون الفرصة فيتعاقدون مع الدور المشاركة في المعرض على شراء الكثير من العناوين. علاوة على باعة الكتب (البسطيات) الذين يعرفون أهواء القراء فيشترون الكتب الرائجة والمطلوبة ويبيعونها بسعر أعلى على أرصفة المتنبي لمن لم تسنح له الفرصة لزيارة معارض الكتب.
ثم ظهرت في التسعينيات ظاهرة ثقافية جديدة وهي بسطيات الكتب التي إحتضتنها أرصفة شارع المتنبي، وكانت قبل هذا التأريخ محدودة جدا، ولكنها تمددت بصورة واسعة يوما بعد آخر، فإحتلت رصيفي شارع المتنبي برمته، وامتدت أذرعها الى جزء من شارع الرشيد، وجزء في نهاية سوق السراي من جانب جسر الشهداء. وكان البعض من باعة البسطيات قد إمتهن بيع الكتب على الأرصفة، فمنهن من برع في بيع الكتب النادرة والنفيسه، ومنها من كان يبع كتب متعددة بصورة مبعثرة بسعر واحد كأن يكون (100) دينارا للكتاب الواحد. وحُددت الأماكن لكل بائع من قبل الباعة أنفسهم بالإتفاق الطوعي، دون ان يتجاوز أحد الباعة على مكان زميله إحتراما وتقديرا. فصار لكل بائع مكانا ثابتا لبسطيته سيما أيام الجمع حيث يكتظ السوق بالقراء. وكان اصحاب المكتبات والمحلات في شارع المتنبي يتسامحون مع باعة البسطيات الذين يحتلون مساحات الأرض أمام مكتباتهم، والبعض من أصحاب المكتبات فتح بسطية أمام مكتبته لأحد عمالة سيما يوم الجمعة، لأن مردوها المالي جيد، وربما يزيد عن مردود المكتبة، فالقراء يفضلون الشراء من باعة البسطيات لأن الأسعار تكون أقل، والباعة يتساهلون بالأسعار مع زبائنهم. وتحولت المكتبات وبعض البسطيات الى التخصص، كالمكتية القانونية، والمكتبة الأجنبية، والمكتبة الاسلامية، ومكتبة القرآن الكريم، ومكتبة الأطفال، كذلك تخصص بعض باعة البسطيات ببيع الكتب الفنية، والصور، والطوابع والبوسترات والمجلات وغيرها.
بالإضافة الى ذلك يوجد في سوق الكتب باعة طارئون على المهنة يأتون بشكل متقطع او لمرة واحدة يبيعون ما عندهم، علاوة على بعض الباعة ممن اضطرته الحاجة سيما في فترة الحصار الإقتصادي إلى بيع كتبه العزيزة على قلبه. ومن المؤسف انه في أحد أيام الحصار شاهدت مدرسي للغة الانكليزية في الإعدادية يبيع كتبا في سوق المتنبي، واشتريت منه عدة كتب لا أحتاجها وانما لغرض مساعدته دون أن أعرفه بنفسي وأني أحد تلامذته، وفي الإسبوع الثاني اشتريت جميع كتبه (20) كتابا على ما اذكر، واراد ان يتساهل معي في السعر، فرفضت وزعمت ان أسعار كتبه مناسبة، واختفى استاذي الجليل من السوق بعدها.
من الظواهر الملفتة للإنتباه وجود عدد من صيادي الكتب النفسية بعضهم من اصحاب المكتبات والبسطيات واذكر منهم المرحوم خالد الشيخلي (ابو أحمد) واستاذ صباح المدرس، وزين النقشبندي وعدنان الرفاعي، ومازن لطيف، وآخرين من القراء العارفين بالكتب النفيسة والثمينة جدا، اذكر منهم مازن البصام وشاكر العزاوي، وشيخ الطريقة الكسنزانية، ورجل صابئي من الصاغة، وهؤلاء يعرفهم باعة البسيطيات فيحتفظون لهم بالكتب النادرة، أو يبحثون عن الوجوه الجديد من باعة الكتب ممن لا يعرف قيمة كتبه او ندرتها فيعرضها بثمن لا يتناسب مع سعرها الحقيقي وندرتها فيتلاقفونها. لذا تجد عندهم أهم المكتبات الشخصية في بغدادة، وغالبا ما يلجأ اليهم الباحثون وطلاب الدراسات العليا ممن لا يجد ضالته في المكتبات العامة او في مكتبات شارع المتنبي، وعندهم كتب مكررة يشترونها بسبب ندرتها، وربما يقومون بمقايضتها مع بقية الصيادين على ما ينقصهم من كتب نادرة، وقد شهدنا مثل هذا المقايضات بين المحترفين منهم.
طور بعض باعة المكتبات طرق البيع عبر إقامة معارض كتب تمتد لإسبوعين أو اكثر في الجامعات العراقية بالتعاون مع عمادة الجامعات، وأبرز هذه المعارض قام بها أصحاب مكتبة البعث للمرحوم ابو طه، ومكتبة المعرفة للسيد عادل، والمكتبة العربية للسيد الأعسم. وكانوا يقدمون لطلاب الجامعة كتبا منهجية حسب إختصاصاتهم العلمية والأدبية، علاوة على كتب منوعة أخرى بخصومات تصل الى 40% من سعر الكتاب الأصلي.
في الثمانيات من القرن الماضي قام المرحوم الكتبي نعيم الشطري بإقامة مزاد للكتب كل يوم جمعه في مكتبته الصغيرة في بداية شارع المتنبي من جهة شارع الرشيد، وكان في بداية السبعينيات ببيع الكتب في عربة ويتجول بها في شارع النهر والرشيد وشارع المتنبي، كان سعر الكتاب آنذاك خمسين فلسا، واذكر اني اشتريت منه عدد من روائع الأدب العالمي، طباعة بيروت، لديستوفسكي، وتولستوي وغوركي وارنست همنغواي وميشال زيفاكو وفكتور هيجو وبلزاك ونيتشة والبير كامو وغوستاف فولبير وأميل زولا وغيرهم.
ولم يفتر سوق الكتب خلال التسعينيات من القرن الماضي كما يظن البعض، بل إزدهر بسبب بيع المكتبات الأهلية وبأسعار مناسبة بسبب الحصار الإقتصادي، فودع الكثير من العراقيين مكتباتهم الشخصية وهم يجرون الحسرات تلو الحسرات. صحيح ان سوق الكتب كان يُراقب من قبل قوة أمنية (من مديرية الأمن العامة) لكنها غالبا ما كانت القوة تتسامح مع الباعة، او لقلة معرفتها بالكتب الممنوعة، علاوة على تفنن الباعة بإخفاء الكتب الممنوعة عندما تتواجد القوة الأمنية في السوق، وكانت تصدر قوائم بالكتب الممنوعة، ويبدو انها لم تكن صادرة من قبل مختصين، والا ليس من المعقول منع تأريخ الطبري وكتب علي الوردي مثلا، ولكن غالبا ما كانت تعرض هذه الكتب دون اكتراث من قبل الباعة، وقام عدد من أصحاب البسطيات بإستنساخ الكتب الممنوعة وبيعها للمعارف بأسعار مناسبة، واذكر منهم مازن لطيف وتوفيق التميمي وخضير الشيخلي غيرهم. ومن المؤسف أنه وصل إسماعنا إختطاف السيدين (مازن وتوفيق) من قبل جهة مجهولة منذ أشهر ولا أحد يعرف مصيرهما لحد الآن. نأمل ان يطلق سرحهم ويعودوا سالمين، فهما من المثقفين العراقيين، ولا ينتميا الى أية جهة سياسية او دينية، ولا يروجا لأي فكر او عقيدة.
ما ان تم الغزو الامريكي الغاشم على العراق عام 2003، حتى إنتهزت المطابع الإيرانية الفرصة بأغراق السوق العراقية بالكتب الشيعية والاسلامية، وقامت بطبع الكتب العراقية النادرة لعباس العزاوي وعلي الوردي وعبد الرزاق الحسني وغيرهم دون مراعاة لحقوق الطبع والنشر، وتم إقامة معارض ايرانية للكتب بأسعار زهيدة لا تغطي تكلفتها، علاوة على توزيع كتيبات وكراسات مجانا لأغراض الدعاية المذهبية، غالبيتها أدعية وكتب مثيرة للفتنة الطائفية، ومع هذا انحسر الكتاب في العراق، وقل عدد القراء بسبب ظروف الغزو والبطالة والفقر وغيرها من الأسباب.
وفي الوقت الذي إزدهرت فيه الكتب الدينية مع بداية الغزو، تراجعت يوما بعد الآخر بعد تسلط الأحزاب الإسلامية ومرجعية النجف وتحكمها في إدارة الدولة العراقية، وبالتالي محقت الهوية الوطنية، وسرقت ثروات البلاد، وعبثت التنظيمات الارهابية والميليشيات المسعورة بمقدرات البلد وزعزعت إستقراره وأمنه، وملئت السجون بالأبرياء، وسُيس القضاء، وساد الفساد في كل أركان الحكومة علاوة على إنتشار الرشاوي والإبتزاز والتزوير، وصارت وزارة الثقافة من حصة الميليشيات! فالوزير السابق كانت من ميليشيا عصائب أهل الحق!
أصاب الحالة الثقافية العطب والإنحلال شأنها شأن بقية القطاعات، وربما هي إنعكاس للتدهور الاقتصادي والإجتماعي والديني. لا يمكن للثقافة ان تعيش في أجواء الفساد والطغيان والظلم، ويتحكم وزير ميليشياوي بثقافة بلد عريق كالعراق. لذا تجد خيرة علماء وأدباء وفناني وصحفي العراق أما مهاجرين أو مُهجرين، فقد تم أفراع البلد من كل قنوات الأبداع المعرفي، وبني على أنقاضه إسفاف ثقافي ومعرفي يتماشى مع رغبة الحكام ومنهجهم الإستبدادي والطائفي.
من المؤسف ان ظاهرة قلة القراءة لا تقتصر على العراق فحسب بل تشمل الدول العربية كافة، وهي لا تقتصر على الكبار فحسب، وأنما الأطفال ايضا. فالإحصائيات التي قدمتها اليونسكو تمثل صدمة ثقافية صعبة المراس للعرب، على سبيل المثال ان متوسط قراءة الطفل لغير الكتب غير المدرسية (نصف دقيقة) شهريا، مقارنة بالطفل الغربي (1000) دقيقة شهريا. و(30) كتابا لكل (1) مليون عربي، مقابل (584) كتابا لمثيلهم الأوربيين. ومعدل قراءة العربي سنويا أقل من نصف صفحة مقابل (11) كتابا للأمريكي و(7) كتب للبريطاني. وما يصدره العالم العربي من الكتب سنويا يبلغ (1650) كتابا، مقابل (85000) كتابا في الولايات المتحدة. وجاء في تقرير (مؤسسة الفكر العربي) لعام 2007 ان كتابا واحدا يصدر لكل (12) الف مواطن عربي، مقابل (500) كتابا للمواطن الانكليزي، و(900) كتابا للألماني. وفي مجال الترجمة، يترجم (4.6) كتابا لكل مليون عربي، مقابل (920) كتاب مترجم في اسبانيا. وان ما تطبعه الدول العربية كافة حسب احصائية عام 1996 هو نصف ماتنشره اسرائيل فقط، علما ان عدد سكان الوطن العربي تلك الفترة يزيد عن (260) نسمة، مقابل (6) مليون اسرائيلي. وهذا الأمر يذكرنا بمفارقة مروعة عندما سئل وزير الدفاع الصهيوني الأسبق (موشي ايان) كيف تصرح بخطة عسكرية قبل الحرب ضد العرب، وتطبقها بحذافيرها خلال الحرب؟
فأجاب: لأن العرب لا يقرأون! إنها حقيقة صادمة ومؤلمة، وهذا هو ديدن الحقائق، مؤلمة على طول الخط. لكن اين نحن من قول السلف الصالح (خير جليس في الزمان كتاب)؟