نعلم جيدا أن الحكومة ككل ، تتغاضى عن كل ما يخص مصلحة المواطن ، منها حقه في المعيشة كباقي البشر ، لا في أوربا بل حتى في أشد الدول الأفريقية فقرا ، أتحدّث هنا عن البناء العشوائي التي أحالت أحيائنا السكنية إلى ما يشبه المقابر ، بسبب حملات بناء المساكن وإكتظاظها وما تسببه من مضايقات إلى درجة إزهاق الروح ، كل ذلك وسط غياب تام للمراقبة والمحاسبة من جهة أمانة بغداد ، بشكل ترافق مع الأنانية والإستخفاف والإستهزاء بالقانون ، وغياب أخلاق حسن الجوار وسوء التعامل وعدم مراعاة الآخرين ، مع ثقافة مريضة أملتها السنون العجاف من قبل المواطن نفسه ، لكن اللوم الأكبر يقع على الدولة ، إما من ناحية عزوفها التام عن تحريك عجلة الإسكان ، أو من ناحية عجزها التام أيضا ، والإفتقار لفرض هيبة الدولة ، فالإنسان بطبيعته ميّال للتمرّد والأستئثار وسرقة الحقوق ، لهذا وُجدَ القانون ، وبالتالي وُجدت الأنظمة السياسية الحاكمة لتقييد الإنفلات والتعدي على حُرّيات الغير ولفرض الأمن والسّهر عليه ، إلا نحن ، فقد نسينا القانون والحضارة ونظام الدولة منذ أكثر من أربعة عشر عاما ! ، ومن سخرية القدر أن بلدنا أول من سنّ القوانين ، وها نحن آخر من ينصاع لها ، ربما سُرِقت (مسلّة حمورابي) لأن سارقها أدرك أننا لا نستحق أن نأويها في بلدنا ! ، (أسد بابل) نستخدمه لنشر الغسيل ، وزقورة (أور) لفترة قريبة ، كانت (جوبة) للغنم ! ، أول بلد علّم العالَم الزراعة ، فصرنا نستورد حتى (الكرفس) ! ، أول بلد إخترع الكتابة ، فتفشت لدينا أمّية غير مسبوقة ، أمية ثقافية وأخلاقية وسياسية ! .
أتحدّث هنا عن جانب الرصافة بالذات ، وبغداد الجديدة وما يحيط بها أنموذجا سيئا لا يُحتذى به ، فالزائر سيَصدَم بالعشوائيات والإضافات والتحويرات في البناء ، سوف لن يجد فرعا من الفروع إلا وأكتظ بمواد البناء مطروحة طيلة أيام السنة ، سيتعجّب من الضياع شبه التام للأرصفة ، لأن أصحاب البيوت إغتصبوها وأعتبروها إمتدادا (لگراجات) سياراتهم ، أكثرهم من (سود الجباه) ، لكن أحدهم تناسى حديث الرسول الأكرم (ص) قائلا : (إماطة الأذى عن الطريق صدقة) ، تناسى أن حتى الصلاة لا تُقبل في أرض مغصوبة ، بل حتى الوضوء إن كانت مياهه من مصدر غير شرعي ، وشاهدت (مشتملا) لا تزيد جبهته عن 180سم ، وبعمق (نزّال) 25 م ! ، لكن الأغلبية مَن حول بيته من مساحة قياسية (300) م مربع ، إلى ثلاث منازل ، أو ستة منازل لأن البعض أستغل الطابق العلوي كمنزل منفصل ! ، جبهة كل منها لا تزيد عن 4 م ، وكل منزل يمتلك سيارة أو أكثر ! ، فيا تُرى أين سيركنونها ؟! ، أي عبء وتجاوز سيشكّله على المجاري والكهرباء والماء ؟ ، والبعض منهم أحال منزله إلى (عمارة) بعدة شقق في منطقة غير تجارية ، وفي الفرع الذي يقع فيه مسكني ، والذي لا يزيد طوله عن 50 م ، استُحدثت 8 منازل خلال عام واحد فقط ! ، وترى فروعنا هذه وقد تحوّلت إلى ما يشبه معارض السيارات ، ولي كل يوم أكثر من خصومة لأني أجد أحدهم وقد سدّ باب منزلي بسيارته دون أدنى مراعاة للأخلاق ، وعندما أعاتب صاحب السيارة على فعله اللامسؤول ، بعد جهود مضنية للعثور عليه بعد الطرق على عدّة أبواب لأنها بلا أجراس ، لأن الأجراس ضاعت مع ضياع الثقة وحسن الجوار والأخلاق العالية ، تجد هذا (الأفندي) هو صاحب الحق ! ، ومنهم من ترك أنقاض البناء وأكوام الرمال لسنوات ! ، فتسد مما تسد من شبكات المجاري ، المتهالكة أصلا .
الذي أعرفه أن (أمانة بغداد) المتوفّاة رحمها الله أيام زمان ، قد سنّت قانون الحدود الدنيا لمساحة المنزل المُقام ، والبالغ 150 أو 200 متر مربع ، وكانت تُغرّم كل مَن يترك مواد البناء على الرصيف ، وترصد له وصل بدل إيجار للرصيف لأنه ليس مُلك الذي خلّفه ! ، فكيف الآن وقد ضاعت الأرصفة وأقيمت مئات الآلاف من المنازل خارج الضوابط الإنسانية قبل القانونية والحضارية ؟ ، أنه خطأ (خيانة بغداد) وليس أمانتها لأنها تركت الحبل على الغارب ليستفحل هذا السرطان ، وإذا كانت الدولة عاجزة عن محاسبة المتجاوزين وفرض القانون ، إما بسبب التهديد بالفصل العشائري أو الفساد والمحسوبية والتقاعس ، فكيف لها أن تحارب الإرهاب وتتجه للتنمية وتؤمّن الخدمات ، سوى لأنها قيادات فاشلة ؟!.
في الأمس القريب ، كانت لجميع منازل بغداد حدائق ، وننتظر النسيم العليل مساءً في أشد أيام الحر لأن لهذه الحدائق دورا حاسما في تلطيف حرارة الجو ، نرى هذه الحدائق قد إختفت ، وصرنا من النادر ما نرى واحدة منها ، وتعكّرت أجواء مدننا بالغبار والرمال ، وتكسّرت الشوارع وتخسّفت منذ سنين ، وسط غياب تام لكوادر هذه التي يسمّونها (أمانة) ! ، لقد كُنّا نَركُن إلى بيوتِنا إعتقادا منّا أنها قلاع نحن سادتها ، فخارج اسوارها ، تكمن غابة من الإرهاب والإبتزاز والموت والفشل الأمني وأكوام القمامة ، لكن علينا أن نعيد حساباتنا ، فهذا ما كان ينقصنا !.