18 ديسمبر، 2024 11:17 م

أماكن الذاكرة وسوسيولوجيا المعاش

أماكن الذاكرة وسوسيولوجيا المعاش

لعل من الأخطاء الشائعة للباحثين والكتاب ، ممن تتمحور حقول اهتماماتهم بدراسة المجتمعات المسماة (تاريخية) ، هي الافتراض المسبق والتصور المبتسر الذي مؤداه ؛ انه كلما أوغلت أصول المجتمع المعني في بطون التاريخ ، وامتدت جذوره بين مفازات الجغرافيا ، وتعتقت تجربته في أعماق الحضارة ، كلما تشبع وعيه بالتاريخ ، واكتنزت ذاكرته بالرموز ، وتثخنت تمثلاته بالمقدسات . وهو الأمر الذي أفضي في غالب الأحيان إلى قصور تحليلاتهم وشطط استنتاجاتهم ، حيال طبيعة تلك المجتمعات إن من حيث تعاطيها مع تراثها المادي أو من حيث تواصلها مع قيمها الروحية . ذلك لأن قيمة المعطيات التاريخية والحضارية والرمزية ، التي نلفاها مبجلة لحد التقديس ومحاطة بالرعاية لحد التحريم ، من لدن بعض الشعوب كما لو أنها تدلل على وجودها وترمز إلى طبيعتها ، لا تترسخ في وعي الفرد ، وتتكرس في سيكولوجيا الجماعات ، لمجرد أنها تمتاز بقدمها التاريخي أو تفردها الحضاري أو تميزها العمراني أو حضورها الرمزي أو تألقها الجمالي . ما لم تكون قد تغلغلت بين طيات اللاشعور الجمعي ، وتوطنت داخل تلافيف المتخيل الاجتماعي ، بحيث تؤطر المواقف وتحدد الخيارات وتنمذج السلوكيات . بمعنى أنها تصبح بمثابة ركيزة للانطلاق وبوصلة للاتجاه وساتر للحماية ومعيار للاحتكام ، حين يفرض الواقع السياسي معطياته المربكة ، ويلزم السياق التاريخي خياراته المشوشة ، ويسوق الإطار الثقافي تطلعاته المتناقضة . إذ غالبا”ما تواضعت شعوب العالم الثالث ، لاسيما تلك التي خضعت لمؤثرات الظاهرة الكولونيالية وتلوثت بإفرازاتها ، على جملة من التصورات الرومانسية والاعتقادات الحماسية ، التي تفيد احتكامها عند الخطوب والملمات إلى ؛ ثوابت تكوينها الحضاري ومسلمات هويتها الثقافية وبديهيات رموزها الوطنية . دون أن تخامرها وساوس الشك أو تعتريها هواجس الظن ، حيال واقعية تلك الثوابت ومصداقية تلك المسلمات ومعقولية تلك البديهيات ، طالما إن الضرورات الانطولوجية والسيرورات السوسيولوجية ، لا تضعها في موضع الاختبار الفعلي لمشاعر انتمائها للمجتمع ، أو امتحان قناعات ولائها للوطن . ولهذا لن تجد عند التحقق والملاحظة شعب من شعوب تلك البلدان القابعة في أحضان الأساطير والغافية على هدهدة الخرافات ؛ لا يتغنى بأمجاد تاريخه كما لو أنه الأوحد في مجال قدامته ، ولا يصدح بانجازات حضارته كما لو أنه الأسبق في مضمار عراقته ، ولا يتباهى بفضائل مناقبياته كما لو أنه الأسمى في حقل تمدنه . ولكنه سرعان ما يقلب لك ظهر المجن ، ويريك من صنوف التعهر والتبربر والتقهقر ما لا يستوعبها عقل أو يألفها منطق ، حالما تنهال النوازل وتزال المحظورات . فضجيج الحميات العنصرية وصراخ النزعات القبلية وزعيق الأصوليات الطائفية ، سوف يعلو على صوت الدافع الوطني العليل والوازع الأخلاقي الهزيل والرادع الاجتماعي المعطل . بحيث تصبح تلك العصبيات البدائية والنعرات التحتية ، هي المرجع والفيصل الذي يقنن العلاقة ما بين الفرد والمجتمع ، ويرسّم الحدود ما بين المواطن والدولة ، ويؤطر الحقوق ما بين الحاكم والمحكوم . وعلى الرغم من تشعب الدراسات وتنوع البحوث التي انصب اهتمامها وتمحور تركيزها حول القضايا المتعلقة ؛ بالكشف عن طبيعة الخلفيات السوسيولوجية التي تتبلور على أساسها  أطر العلاقات الإنسانية ، والبحث عن ماهية الأصوليات الانثروربولوجية التي تتجسد بموجب وحيها ملامح الشخصية الاجتماعية ، والتنقيب عن خبايا الأعماق السيكولوجية التي تتكون من خلالها خصائص العقلية المحلية ، والحفر في طمى الفكريات الأسطورية التي تمتح من معينها صور التمثلات المخيالية . إلاّ انه قلما تعرض باحث أو تصدى دارس لموضوعة (أماكن الذاكرة) في سياق علاقتها بسوسيولوجيا المعاش وارتباطها بسيكولوجيا الراهن ، وخصوصا”لجهة دورها الفاعل – ولكن المضمر – في تكوين الصور وتشكيل الانطباعات من جهة ، ووظيفتها العضوية – ولكن المستترة – في صيرورة الإحساس بالانتماء وصقل الشعور بالولاء من جهة أخرى . بحيث عدت من الأمور الطارئة والقضايا الهامشية التي لا تستأهل عناية الباحثين الاجتماعيين ولا تستوجب أثارة أي اهتمام لديهم ، باستثناء بعض الإشارات المتناثرة والإحالات النادرة ، التي تأتي في سياق إثبات وجهة نظر ما أو تعزيز قناعة معينة ، وذلك استنادا”وجهة النظر التي ترى أنها أقرب إلى حقول الأدب منها إلى ميادين الاجتماع ، وأدنى إلى أنماط الوعي منها إلى مضامير السياسة . ولهذا فقد لبثت الدراسات السوسيولوجية والانثروبولوجية ردحا”من الزمن ، تتعاطى المعلومات والبيانات المتعلقة بطبيعة المجتمعات القديمة ؛ لجهة أنماط الثقافات المهيمنة عليها ، وخصائص الهويات الفاعلة فيها ، وأشكال التمثلات المنبثقة عنها . كما لو أنها العوامل الوحيدة المسؤولة عن تحديد طبيعة الوعي الجمعي وتشخيص مضمون السيكولوجيا الاجتماعية ، دون أن يكون للمعطيات المادية ذات الطابع الرمزي ، التي أضفى عليها التقادم التاريخي والتراكم الحضاري قيمة وطنية عالية ، ليس فقط في وجدان الأفراد والجماعات فحسب إنما في ضمير المجتمع الكلي أيضا”. ولعل هناك من يتساءل عن ماهية تلك الكيانات والمعطيات الرمزية التي أسبغنا عليها تسمية (أماكن الذاكرة) ، بحيث تستحق منا أن نوليها كل هذا التوقير والتقدير ، فضلا”عن المغزى الذي نتوخاه من  إثارة موضوعها وتسليط الأضواء عليها الآن  وفي هذا الوقت بالذات ؟ . في الواقع لسنا من صك هذا التعبير الثري بمعانيه والغني بدلالاته ، إنما تعود نسبته إلى المؤرخ الفرنسي (بيير نورا) ، الذي جعله عنوانا”لكتابه : أماكن الذاكرة الصادر عام 1994 والمؤلف من (7) أجزاء . حيث استطاع ومن خلاله بحث ودراسة التغييرات والتحولات التي طرأت على أنماط الهوية الفرنسية ،(تصوروا إن هذا المؤرخ الفذ يخصص سبعة مجلدات ! لتحليل خصوصية الذاكرة الفرنسية فقط ، وهو المواطن في أول بلد غربي شهد بزوغ عصر الأنوار وتبنى الفكرة العلمانية ومارس السياسة العقلانية ، فضلا”عن كونه السبّاق في مضمار سن لوائح حقوق الإنسان وتقنين شرعة المواطن في العصر الحديث) . وهكذا فقد وجد الباحث المغربي (زهير سكواح) إن أماكن الذاكرة تتمثل – بحسب المؤرخ نورا- ((بأمكنة جغرافية وبنايات وتماثيل وأعمال فنية ، وأيضا”شخصيات تاريخية وأيام تذكارية ونصوص فلسفية وعلمية وأنشطة رمزية وغيرها)) . موضحا”انه لكي نضفي صبغة الذاكرية على مفهوم مجرد أو شيء حسي معين ، لابد من توفره على ثلاثة أبعاد مترابطة ومتفاعلة ؛ الأول البعد المادي ويشتمل على (أبنية تاريخية ، نصب تذكارية ، تماثيل شخصية) ، بحيث لا تقتصر طبيعتها على مجرد كونها قابلة للمس الحسي وتشغل حيزا”مكانيا”يستدعي تأملا”باطنيا”وتذوقا”جماليا”فحسب ، إنما ينبغي أن تكون موضوعات تمتلك حضورا”قيميا”مؤثرا”، تسهم من جهة أولى في شحذ وعي الأفراد حيال كونهم يمتون بصلة لما ترمز إليه تلك الشواخص من تقارب وتجاذب ، بصرف النظر عما بينهم من اختلافات في المواقف وتباينات في الاعتقاد . وتعزّز من جهة ثانية روابط الألفة بين الجماعات ، كونها تنتمي إلى أرومة حضارية وثقافية مشتركة ، استنادا”لما تشي به تلك الموجودات من تجانس وتناغم ، بصرف النظر عما بينها من تناقضات في المصالح وتقاطعات في الرؤى . وهو الأمر الذي يضعنا في صلب البعد الثاني الوظيفي ، الذي يتمحور دوره بالكشف عما إذا كانت تلك الموضوعات الذاكرية ، تمارس ضغطا”نفسيا”وضبطا”اجتماعيا”وبأي اتجاه ؛ هل تفضي إلى دروب العقلنة أم تؤدي إلى ضروب الزعرنة ؟ ، وهل تشجع على مظاهر الائتلاف أم تقود إلى ظواهر الاختلاف ؟ ، وهل تساعد على نمو جذوة التحضّر أم تدفع باتجاه نزعة التبربر ؟ . وهنا نصل إلى تخوم البعد الثالث الرمزي ، حيث يحمل بين طياته ضروب من المعنى وأنماط من الدلالات ، التي طالما كانت المحفز الرئيسي لاجتراح الإنسان مواقف وتوجهات ، تتسم بروح التفاني ونكران الذات تعبيرا”عن صحوة الضمير الأخلاقي ونخوة الداعي الوطني تارة ، أو تستدرجه لاستلهام سردياته الطوائفية واستيحاء أصوله الأقوامية واستبطان خلفياته القبائلية تارة ثانية ، وحمله بالتالي للانخراط بسلوكيات نكوصية وعلاقات ارتكاسية ، تنم عن العنف في الحالة الأولى والتطرف في الحالة الثانية والتعصب في الحالة الثالثة . والمفارقة إن (نورا) لم يكتب تلك المجدات السبعة من كتابه المذكور ، لإحساسه بان الهوية الوطنية الفرنسية باتت تواجه تهديد التفكك والانمساخ ، وان الذاكرة التاريخية للمجتمع الفرنسي أضحت تعاني خطر التصدع والاندثار – كما هو حال الهوية العراقية والذاكر التاريخية للمجتمع العراقي حاليا”– بقدر ما كانت هواجس القلق حيال تفشي مظاهر الإشباع والتخمة ، التي قد تساور الفرد الفرنسي خاصة والغربي عامة ، حين يتعلق الأمر بالالتزامات المترتبة على الانتماء للمجتمع القومي ، والاخلافيات المنطوية على الولاء الدولة الوطنية . هي من ألهمه الخوض في أتون هذا المعترك السوسيوانثروبولوجي الشائك ، لاسيما وان المجتمعات الغربية إجمالا”باتت تتطلع إلى بلوغ المواطنية الحضارية ؛ العابرة للقوميات الكلاسيكية ، والمتخطية للثقافات التقليدية ، والمتجاوزة للهويات الأصولية ، والنزّاعة للتوجهات الكونية . وهو الأمر الذي أشار إليه الباحث الانثروبولوجي (سون هوغبول) ضمن بحثه الموسوم (ثقافة الذاكرة وسياساتها في الشرق الأوسط العربي) حيث يقول ((اليوم وسم تراجع الوطنية أغلب الدول الأوروبية التي كانت اتخذت الذاكرة دعامة لها ، بما يسميه (بيير نورا) ندوب الذاكرة ،أي علامات خارجية بدلا”من المعاني الضمنية المسلّم بها . ويدعي (نورا) إن الهوس الشعبي بالتاريخ في العديد من المجتمعات الغربية اليوم يمثل في حقيقته متلازمة على إننا افتقدنا الإحساس بالذاكرة التاريخية ، واستعضنا عنها بتمثلات ماض صمم للاستهلاك بدلا”من الشرعية الموحدة ، وهو ما أفصحت عنه صياغته الشهيرة التي تقول : نحن نكثر من الحديث عن الذاكرة لأنه لم يبق لنا منها إلاّ القليل)) . وخلافا”لوجهة نظر مواطنه العالم الاجتماعي (موريس هالبواكس) ، الذي أمضى شطرا”من نشاطه الفكري ببحث في العلاقة بين الهوية الوطنية والذاكرة الجمعية ، عبر كتابه الموسوم (الذاكر الجمعية) ، فضلا”عن كتابه الآخر (الأطر الاجتماعية للذاكرة) ، التي خلص من خلالها إلى إن الوظيفة الأساسية للذاكرة تتحدد بتأسيسها للهوية المشتركة ، فان أطروحة (بيير نورا) تذهب باتجاه مغاير ينطوي على فكرة انه طالما دلفت الهوية طور ما يسميه (بالنسيان الجمعي) ، على  خلفية إن ((المجتمع العصري – كما أوضح ذلك الباحث زهير سكواح – يشهد انتقالية ذات وتيرة متسارعة ، بدأت فيها معظم أو إن لم نقل جل أشكال الارتباط بالماضي والمؤسسة في آن واحد الهوية الجمعية في الاضمحلال التدريجي ، مما يجعل أماكن الذاكرة ذلك البديل الحسي والاصطناعي .. والضامن الوحيد ليس فقط لاستمرار الارتباط الجمعي بالماضي القومي ، بل في المقام الأول لتأسيس الهوية المشتركة – القومية والمحافظة عليها)) . والملاحظ هنا إن طبيعة سوسيولوجيا المعاش في بيئة المجتمع الفرنسي ،  خلال الحقبة التي شرع فيها الفيلسوف والعالم الاجتماعي (موريس هالبواكس) بالكتابة ، كانت مختلفة نوعيا”عما ألف طبيعتها وتلمس خصائصها المؤرخ والعالم الاجتماعي (بيير نورا) في حقبة تالية . بمعنى إن الشعور بالهوية الوطنية للمجتمع الفرنسي ، والإحساس بالذاكرة الجمعية للأمة الفرنسية ، كانا قد تغلغلا داخل بطانة السيكولوجيا الاجتماعية بصورة تكاد تكون شاملة ، واستحوذا على وعي الأفراد والجماعات سواء بسواء بشكل يكاد يكون مطلق ، على خلفية ((إن ذاكرتنا – يكتب هالبواكس – إنما تستند إلى التاريخ المعيش وليس إلى التاريخ الذي نتعلمه)) . وهو الأمر الذي تشاطرت مظاهره واحتضنت نزعاته المجتمعات الأوروبية قاطبة وقتذاك ، لاسيما وان العالم الغربي كان لا زال يعاني آثار وعواقب الحرب العالمية الأولى ، فضلا”عن إن نذر الحرب العالمية الثانية كانت تلوح بالأفق . بحيث شكلت هذه الخلفية المحفزة والمكفهرة العوامل الرئيسية التي ألهمت مؤلف (الأطر الاجتماعية للذاكرة) ، لاتخاذ هذا المنحى من التحليل السوسيولوجي والتنظير الابستمولوجي والتأويل الانثروبولوجي ، مما استتبع أن يدفع ثمن موقفه الوطني والتزامه الأخلاقي وحياده العلمي ، حيث كان من جملة العلماء الذين أعدمتهم السلطات النازية إبان احتلالها لفرنسا ، بعد أن اقتيدوا إلى معسكرات الاعتقال سيئة الصيت التي التهمت عشرات الآلاف من الضحايا والأبرياء . هذا في حين إن (أماكن الذاكرة) الذي وضعه (بيير نورا) ، جاء في إطار مختلف من الأوضاع السياسية والإيديولوجية ، وسياق مغاير من الظروف الاجتماعية والاقتصادية ، ومنعطف مباين من المعطيات الثقافية والفكرية . إذ شهد الثلث الأخير من القرن المنصرم اندياح صيحات العولمة على أكثر من مستوى من جهة ، وانزياح تواضعات الحداثة على أكثر من صعيد من جهة أخرى ، بحيث شكل تظافر مؤثراتها وتوافق انعكاساتها تحديات خطيرة ، ليس فقط بالنسبة لأنماط الاستقرار السياسي والتوحد الاجتماعي والتوازن الاقتصادي والتعايش الديني والتجانس القيمي فحسب ، بل وكذلك بالنسبة لمفاهيم من مثل ؛ الدولة والوطن والأمة والقومية والتاريخ والهوية والثقافة والذاكرة والمتخيل . ولهذا فقد أشار الانثروبولوجي (جويل كاندو) في كتابه الذي يحمل عنوانا”ذا دلالة (الذاكرة والهوية) ما نصه ((إن ثمة رابطة بين إحياء الذكريات وأزمة الهوية)) . وهو الأمر الذي أستوجب قراءة جديدة للخارطة الاجتماعية ، فضلا”عن إعادة تقييم لمساحات تضاريسها الفكرية والثقافية والنفسية ، بما يعيد للأمم والشعوب الحية ثقتها بنفسها ويمنحها القدرة على إدراك وعيها  بذاتها ، كسيرورات حضارية فاعلة لها من الثوابت الوطنية ما تعتزّ به ومن الأرومات القومية ما تدافع عنه ، بصرف النظر عمن يحكم قبضته على مقاليد السلطة من الأحزاب والشخصيات ، أو يدير دفة الدولة من وراء الكواليس من الجماعات واللوبيات ، وهذا ما حاول (بيير نورا) أن يبشّر به ويدعو إليه في سفره (أماكن الذاكرة) . والمؤسف أن أحدا”من المتخصصين بهذا الضرب من المقاربة ، فضلا”عن الضليعين بهذا لنوع من  اللغة ، لم يبادر إلى نقل هذا العمل الفكري الجبار إلى لغة الضاد ، لكي يكون عونا”ومرشدا”لشعوب هذه المنطقة المستباحة من العالم ، حيث الشخصية الاجتماعية في ذروة تفككها وانهيارها ، والهوية الوطنية في عزّ أزمتها وانمساخها ، والذاكرة الجمعية في أوج تصدعها وتفسخها ، وأماكن الذاكرة في أقصى خرابها واندثارها . مطلقين العنان للحديث عن الحداثة وما بعدها تارة ، في حين التخلف يضرب أطنابه في كل زاوية من زوايا المجتمع ، ومهتمين بالترويج لأفكار العقلانية في آخر تجلياتها والعلمانية في أحدث صرعاتها تارة ثانية ، في حين إن النعرات القبلية والنزعات العنصرية والصراعات الطائفية أرخت سدولها على كل ما له صلة بالولاء للوطن الواحد والانتماء للتاريخ المشترك والاحتماء بالوعي الاجتماعي والاحتفاء بالذاكرة الجمعية . وميممين شطر الدعوة للتحلي بروح المواطنة ، والالتزام بأخلاقيات المجتمع المدني ، والتقيد بضوابط القانون ، والاحتكام لسنن المؤسسات تارة ثالثة ، في حين إن الفرد في هذه المجتمعات ما زال يؤمن ببطولة الزعامات ، وما برح يعتقد بشخصنة السلطات ، وما فتئ يستجير بحضوة الاستزلامات ، وما انفك يستجيب لنداء الأصوليات . وإذا كانت المجتمعات الأوروبية بشكل عام والمجتمع الفرنسي على وجه التحديد ، وهي تخوض معترك الحفاظ على شخصيتها الاجتماعية ، والتمسك بهوياتها الوطنية ، الاعتناء بذاكراتها الجمعية ، قد احتاجت إلى من يبصرها بقيمة ما أسماه بيير نورا (أماكن الذاكرة) ، فيما لو داهمتها نذر العولمة وعصفت بها رياح ما بعد الحداثة ، حيث الثوابت في مهب الشك والقينيات في مرمى المساءلة . نقول إذا كان هذا هو حال المجتمعات الراسخة والمتطورة حين تواجه التحولات البنيوية والمنعطفات التاريخية ، فما هي  يا ترى حاجة المجتمعات الرخوة في وطنيتها والمشوشة في وعيها والمشكوك في ولائها والمطعون في انتمائها ، لمثل تلك (الأمكنة الذاكرية) التي يفترض أنها تغذي لديها الإيمان بوحدة اجتماعها الحضاري ، بصرف النظر عن تنوع أعراقها وتعدد طوائفها وتباين أديانها ، وتعزز عندها القناعة بحرمة نظامها المؤسسي ، بصرف النظر عن تخالف أحزابها وتناقض إيديولوجياتها وتشاكل ثقافاتها . ولعل من  أبرز خصائص الشعوب المستعبدة ، ناهيك عن كونها الأسوأ ، هي الميل المفرط لإضفاء طابع من التشخصن على كل أنواع الرموز الوطنية وجل أشكال المواريث القومية ، كما لو أنها صممت خصيصا”وأقيمت تحديدا”للتعبير عن كاريزمية الزعيم/ البطل أو مثالية الدولة / السلطة . بحيث إن مجال تصورها يؤطر وحقل تفكيرها ينمط ، ضمن متلازمة من الإيحاء العفوي / الأوتوماتيكي ، بين رؤية الرمز كعلامة وحضور المرموز كواقع في اللحظة والتو ، دون أن تجشم نفسها عناء البحث عن المعاني الكامنة والتنقيب عن الدلالات المستترة ، التي يمكن أن تستدعيها وتستنهضها تلك الحالة في المخيلة . وهكذا ما أن يسقط النظام السياسي / الحكومة على سبيل المثال أو يزاح الحاكم / القائد من السلطة ، سواء أكان بفعل ثورة أو انقلاب أو حتى تدخل خارجي – كما في مثال العراق – فانه سرعان ما يفقد الأول ليس فقط مكونات سلطته وتتبدد مقومات سلطانه ، عن طريق حجب غطاء الشرعية وإزالة مصادر المشروعية فحسب ، إنما الشروع بنهب المؤسسات وسلب الممتلكات وتخريب الرمزيات وشطب الانجازات . مثلما يخسر الثاني ليس فقط هالة التبجيل التي كانت تحيطه ودواعي التوقير التي كانت تلازمه فحسب ، إنما يغدو مشروعا”للقتل والإبادة وموضوعا”للتمثيل والتهويل . وهنا لا يلبث سعار العنف والكراهية أن يطال كل ما له علاقة (بأماكن الذاكرة) ، التي كانت في عرف السيكولوجيا الاجتماعية ترمز إلى شمولية الدولة / السلطة ، ودكتاتورية النظام / الحكومة ، ودموية الحاكم / الزعيم . وهكذا تبدأ عمليات الهدم للنصب والتماثيل ، والتدمير للمتاحف والأعمال الفنية ،  والحرق للمكتبات المركزية ومراكز البحوث الوطنية . كل ذلك يجري على خلفية اقترانها بدلالات تخليدها الطغيان السياسي وتأبيدها للحرمان الاقتصادي وتسييدها للارتهان الإيديولوجي . وكما لاحظ – سون هوغبول – فانه ((عندما يشرع ضحايا القمع المنهجي العنيف بالانتظام ، فانه ينظّمون في الآن نفسه الزمن بطرق جديدة تتحدى الغائية الوطنية ، وفي هذا المعنى يكون الماضي ذاته حقلا”متحركا”. إن الزمن الذي ينقضي بدءا”من فعل العنف ، يغير محفزات الناس في إعادة رواية الأحداث ، وتثبيت حقائق جديدة تتحدى تلك السرديات الوطنية السابقة القبول))  . 
[email protected]