23 ديسمبر، 2024 9:52 م

أليوت مُرسلا لتصميم خارطة الحداثة الأوربية

أليوت مُرسلا لتصميم خارطة الحداثة الأوربية

واجه الحداثيون معطيات الواقع، وكان الواقع أشد تأثيرًا على البنى الارتكازية للفرد، سواء النفسية أو الفكرية أو الثقافية والاجتماعية، إضافة لذلك فإن الموروث قد استقر في حفريات الذاكرة وتحسس أماكنها المؤثرة وفعل فعله على مدى قرون. وقد بذلت محاولات لم تتمكن من قشع الغيوم الداكنة ولم تستطع هذه المحاولات تحريك تلك الرياح الفاسدة الثقيلة، فقد نظم الحداثيون فعلهم التجديدي على إعادة النظر بمفهوم الوعي للثقافة لتشكيل الرؤى الجديدة التي من خلالها يحدث التغيير المطلوب ، وكان ذلك تحديا جذريا على كافة المستويات بما في ذلك طبيعة المستوى الإدراكي.

ولا شك تاريخيا أن الفترة ما بين (1850-1890) هي الفترة الخصبة التي حولت الشعر من مسارات لأخرى وطبعت الأدب الفرنسي بطابعه الخاص عموما والشعر خاصة، ومن قبل رواد الربط الثلاثي بودلير- رامبو- لارميه، لتتشكل بعد ذلك أوروبا الشعرية الجديدة عن طريق

(ريلكه وإليوت ) كان إليوت قد ولد للعام 1888 بمدينة سانت لويس من ولاية ميسوري ودرس بجامعة واشنطن ثم هارفارد عام 1906 وفيها درس الفلسفة، وكان قد قرأ في باريس الأدب الفرنسي وأعاد قراءة الفلسفة في السوربون ثم عاد لأميركا وأكمل دراسات أخرى له في هارفارد. وقد امتدت دراسته جوانب معرفية متنوعة كان آخرها أنه درس اللغة الهندية والسنسكريتية وطاف ألمانيا ودرس في أكسفورد الفلسفة الإغريقية. وكانت رغبة إليوت العملية تتوق للعمل في البحرية الأميركية وقد حالت حالته الصحية دون الولوج لهذه المهنة فعمل في البنوك وفي الصحافة والمجلات الأدبية ولكن جل حياته بعد ذلك قضاها في لندن.

نشر إليوت العديد من المجاميع الشعرية والنتاجات النقدية ففي مجال الشعر نشر«بروك وملاحظ أخرى عام1917» وفي عام1919 نشر مجموعته الشعرية «قصائد» وقام بدمج هاتين المجموعتين بمجموعة واحدة وأضاف إليهما بعض النصوص وأسماها«لذا أناشدك» ثم قدم إليوت مجموعة شعرية جديدة اعتبرت واحدة من المجاميع الشعرية الفريدة والمتميزة والتي لاقت قبولا ورواجا في الأوساط الأدبية والتي أسماها «اليباب» فنال عليها جائزة ديال عام 1922 وقدم إليوت إنجازات شعرية أخرى من خلال(ألام سويني-أربعاء الرماد- بيرت نورتن وأناشيد الجوق) بين الأعوام1927-1934 ثم توالت بعد ذلك مجاميعه الشعرية ومنها جريمة قتل في الكاتدرائية واجتماع

شمل العائلة والرباعيات الأربع وحفل الكوكتيل. وقد زامن ذلك ما كتبه في مجال النقد ومن نتاجه النقدي الذي لا يقل أهمية عن نتاجه الشعري «الغابة المقدسة» و«من أجل لونسلوت أندروز ودانتي» وكتابه النقدي المفيد والممتع «فائدة الشعر» وبحثا عن آلهة غريبة.

كان إليوت وحسب ما يشير اليه إحسان عباس يبحث عن معادله الموضوعي ويستعلم من عوالم الأرواح والأشباح ما يمكن أن يربط به التجارب السابقة والمتنوعة في الأساطير واستبياناته التي أراد بها أن يصل إلى مرتكز ديني ما في محاولته الشعرية للبحث عن الكفاح الروحي:

بعد الشعلة الحمراء على الوجوه الناضحة بالعرق

بعد الصمت الصقيعي في الحدائق

بعد العذاب في الأماكن المصمتة والصراخ والبكاء

والسجن والقصر وتردد صدى البرق فوق الجبال النائية

من كان حيا قد غدا ميتا

ونحن الذين كنا أحياء

هل نحن نحتضر

بصبر قليل

إن استقراءات إليوت في هذا النص ونصوص أخرى تكشف عن طريقته بالتمعن في لحظات التضحية والخلاص ولا شك

بأن إليوت قد وجد بأن لا بد أن يكون لكل شعر ما يميزه وخصوصا في القصائد الطويلة. وبالشكل العام فقد عمل إليوت في شعره ضمن مسارات عدة من بينها مسافات وحجم التنبيه الإدراكي، والتركيز والتكثيف الصارم ودعم المحتوى البنائي أثناء التكيف السردي، والإيقاع والموسيقى، والذي يرى فيهما بأنهما يكفلان للشعر وحدته وكذلك إيمانه بأن النص يجب أن يبنى بعناية غايتها إحداث الأثر الكلي وتنظيم العبث والفوضى وإعطاءهما شكلا ومعنى.

يعود إحسان عباس ويرى أن كل ما ذُكر من الصفات الشعرية لإليوت تجتمع في موعظة النار:

تعلقت آخر أنامل الورقات

متمسكة بالضفة البليلة

مذ غاصت

وعبرت الريح الأرض الداكنة دون زفيف

وارتحلت الحوريات

أرفع صوتي

ولا أطيل كلامي

ولكني ومن ورائي

في عاصفٍ باردٍ

أسمع

قعقعة العظام

وقهقة تُنقلُ

من أذن لأذن

المهم في كل هذا، هناك اشتباك ما بين الصور البصرية وبين الصور التخيلية وتفصيلات بجزئيات يحصل عليها الشاعر بعناية، ووصف صائب محكم ومحدود. وقطعا ومن خلال دراسة إليوت للفلسفة التي أثرت بشعره فإن تأملاته الفلسفية المعقدة كانت تطوع أشد الصور حسية في محاولاته للتعامل مع الروحي وجلبه إلى عالم الواقع المنظور وكان إليوت قد بدأ برسم الخارطة الجديدة للشعر الأوروبي.

[email protected]