((انّ كل نتاج الفكر البشري من ادب وفن ودين ناشيء عن هذا اللغز المحيّر ….. لغز الموت، فالانسان منذ الخليقة بحث عن وسيلة للخلود، ولكن هيهات، فالّذين سيتذكرونه هم انفسهم فانون.
إنّ الطبيعة صامتة صمتا ابديا ولا تُبالي بنا، وهذا الصمت واللامبالاة اللانهائية هو الّذي يُفزعنا ويجعل اغانينا حزينة، وبسبب جحود وصمت هذا الكون لجأ الانسان الى المعابد والكنائس والمساجد منذ القدم، لأنّ الانسان لا يحتمل العيش منسيا يذكره منسيون مثله، وبسبب هذا الصمت والسكون السرمدي نلوذ بالفن ونبحث عن اللّه والحق والعدل والجمال.
إنّ الإنسان في الحياة كالمدعو إلى وليمة دسمة ولكنّ الطعام الّذي يتناوله في هذه الوليمة كلّه مسموم، ومع هذا يأكله ويستمر في الاكل حتّى النهاية)).
(كتاب ألأحلام… لمصطفى محمود).
ألموت هو ألحقيقة ألتي حيّرت عقل ألإنسان، فنهاية كل شيء موت…ألآلهة، ألأجرام ألسماوية، ألكواكب ألسيارة، ألنباتات ، ألحيوانات ،ألبشر جميعها مآلها ألفناء.
ألشيخوخة وألأمراض ألتي تصيب ألكائنات ألحية وألكوارث ألطبيعية كالفيضانات والزلازل وأنفجارات ألبراكين وإصطدام ألنيازك بألأرض من جملة أدوات ألموت. في ألتراث ألإسلامي لا يقبض ألله أرواح ألبشر بعبارته ألسحرية (كن فيكون) وإنّما يكلّف ملك ألموت (عزرائيل) للقيام بهذه ألمهمّة، وهنا يحق لنا أن نتسائل:
هل يحتاج ألله ألغني عن ألعالمين وألقدير إلى مساعد للقيام بهذه ألمهمّة؟ أم هي من بنت أفكارنا وتصوراتنا وأوهامنا.
ألموت لغز لم يتمكن ألإنسان من فك طلاسمه لحد ألآن ووقف ألعقل ألإنساني أمامه حائرا.
لماذا ألموت قدر جميع ألكائنات؟
ماذا سيحدث لو أختفى ألموت؟
هل سيتمكن ألإنسان من قهر ألموت في ألمستقبل بإستخدام تقنية ألإستنساخ ونقل ألذاكرة إلى ألنسخة ألجديدة؟
أسئلة تتبعها أجوبة وكل جواب يؤدي إلى أسئلة أخرى.
حسب معتقدات ألأديان ألأبراهيمية فإنّ ألرب أو ألله فرض ألموت على ألبشرية نتيجة خطيئة آدم، فبعد أكله من ألشجرة ألمحرمة نزع ألإله من آدم خاصية ألخلود وكتب عليه ألموت بعد فترة، وسواء أقصرت هذه ألفترة أو طالت فألنتيجة الحتمية لن تتغير.
حسب معظم ألمعتقدات ألدينية ألإنسان يتكون من مادة (جسد) وروح فعندما يموت ألإنسان ينفصل ألروح عن ألجسد ولكن ألروح يبقى خالدا لأنّه نفخة من روح ألخالق، وسيتم محاسبة ألأنسان في التراث ألإسلامي يوم القيامة أو يوم ألدينونة بعد إندماج ألروح مرة أخرى مع ألجسد.
بلغ الانتصار على الموت قمته في المسيحية التي اعطت الإنسان بعثا كاملا غير منقوص، حيث يعود الجسد سيرته الاولى بكل تفاصيله واجزائه.
في مسيرة المسيحية الاولى في القرون الثلاث بعد الميلاد، حيث ارتبطت بكونها فرقة يهودية جديدة، تخبّط الفكر اللاهوتي قبل ان يتوصل لقرار حاسم في البعث وخلود الروح وشمولية الثواب والعقاب، فكانت فكرة خلود الروح تقتصر على المؤمنين الذين اتّحدوا بالمسيح فأعطيت لهم به الحياة، شأنها في ذلك شأن ديانات الاسرار التي كانت شائعة في الامبراطورية الرومانية في تلك الآونة كالاورفية وغيرها، حيث كان الالتصاق بمخلّص هو (ديونيسيوس أوغيره) شرط للخلاص وللحياة الجديدة.
في الدين اليهودي عالم الموتى هو عالم سفلي تذهب اليه ارواح الموتى جميعا دون تمييز.فنجد فيه القديسين والناس العاديين معا. وليست عملية الموت الّا مرحلة تقود الفرد من حالة الى اخرى من احوال الوجود، عن طريق مفارقة الروح للجسد، فالارواح تكون متساوية في مصيرها كما هو الامر في ثقافة وادي الرافدين فلا بعث هناك ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب، بل وجود ثقيل راكد، واستمرار لا فرح فيه ولا نشوة.
تختلف معتقدات ألهندوسية وألبوذية عن ألأديان ألأبراهيمية في مصير ألروح بعد موت الإنسان، فهم يؤمنون بعقيدة تناسخ الارواح فروح الانسان الميّت يعود الى الارض ويدخل في جسم أنسان آخر وتتكرر هذه العملية عدّة مرات (عقيدة ألكارما).
الإيمان بحقيقة التناسخ أو تقمّص الروح في أجساد متتالية، له في الهند قوّة وشمول بحيث يعتنقه كلّ هندوسي على أنّه بديهية أو فرض لا بدّ من التسليم بصحته، ولا يكاد يكلّف نفسه عناء التدليل عليه، فتعاقب الأجيال هناك تعاقباً سريعاً متلاحقاً بسبب قُصر الأعمار وكثرة النسل، يوحي إلى الإنسان إيحاء لا يستطيع أنْ يفر منه، بأنّ القوة الحيوية تنتقل من جسد إلى جسد أو بأنّ الروح تحل بدناً بعد بدن، إذا عبّرنا عن الأمر بعبارة لاهوتيه، ولقد طافت الفكرة برأس بوذا مع مرُّ الهواء في أنفاسه، فهذا الهواء الّذي يدخل شهيقاً ويخرج زفيراً هو الحقيقة الواحدة الّتي لم يشك فيها قط على ما يبدو، إنّه سلّم تسليماً بعجلة التناسخ في دورانها وبقانون “كارما” وتفكيره كلّه إنّما يدور حول سبيل الفرار من هذه العجلة الدوارة، كيف يُمكِن للإنسان أنْ يحقق لنفسه النرفانا في هذه الحياة الدنيا، والفناء التام في الحياة الآخرة.
امّا طبقة الشودرا او طبقة الخدم وهم طائفة من بعض شعوب جنوب اسيا فإنَّهم يؤمنون أيضا بعقيدة تناسخ الارواح، وحسب عقيدتهم فإنَّ الارواح لها دورة حياتية تتناسخ فيها وتنتقل من جسد الى اخر يُحدده عمل الروح في الجسد الّذي حَلَّت بهِ، فالخيِّر لا يرتقي، امّا الشرير فانّه ينتقل الى جسد في نفس المستوى إلى انْ يصل الى مرحلة الخلود حيث يتّحد مع ذاته وفي هذه المرحلة يُعطى فرصة تلو الاخرى لكي يتعرّف على ربّه في اكثر من دورة حياة.
إنَّ الشودرا لا يؤمنون بالبعث لذلك لا اهمية لفعل الخير والشر لديهم طالما قام بالواجب المشروط عليه وهو الزواج والانجاب.
إنّ ألإيمان بخلود ألروح بعد ألموت نشأ في عقل ألإنسان من رغبته في ألخلود ومن إحساسه بعدم وجود العدالة في عالمنا، فالذين يعتقدون بيوم ألقيامة يأملون أن تتحقق ألعدالة في حياة اخرى يقتص ألخالق فيها من الظالم ويتمتع المحروم في حياة ألدنيا بمتع لا حصر لها في ألآخرة.
إنَّ المخلوقات من بشر وحيوان ونبات حين تموت تتحلل أجسامها في التراب او الماء الى العناصر المكوِّنَة للطبيعة من فسفور ونايتروجين وكربون وأوكسجين وهيدروجين الى اخر العناصر المكونِة لجسم الاحياء، إنَّ هذه العناصر تعود بشكل او اخر فتكوِّن اجسادا اخرى للبشر والحيوانات والنباتات فكل هذه المخلوقات تقتات بعضها على البعض وهذه العملية تشكّل دورة الحياة في الارض.
في سفر الجامعة من ألتوراة نجد بأنّ القوى العمياء هي المسيطرة على شيئول (ألعالم ألسفلي) ويحدّثنا عن ضرورة تزوّد الانسان بما يستطيع من هذه الحياة لأنّ بعدها يأتي ألنسيان، فنقرأ في الاصحاح التاسع كلمات تشبه الى حد بعيد كلمات فتاة الحانة الى جلجامش:
(اذهب كُل خبزك بفرح وأشرب خمرك بقلب طيّب.. لتكن ثيابك في كلّ حين بيضاء.. ألتذعيشا مع المرأة ألتي أحببتها.. لان ذلك نصيبك في الحياة وفي تعبك الذي تتعبه تحت الشمس. كلّ ما تجده يدك لتفعله فأفعله بقوّتك لأنّه ليس من عمل ولا اختراع ولا حكمة في الهاوية التي انت ذاهب اليها).
تمنياتي بحياة زاخرة بألصحّة وألسعادة.
المصادر:
مغامرة العقل الأولى…… فراس السوّاح
قصّة ألحضارة …… ول ديورانت