ـ يشكل التصدي لإشكالية الاستقرار السياسي لبلد مضطرب مثل العراق.. تحديا لكل باحث في مستقبل العراق.. خاصة للمختصين بتاريخ العراق المعاصر.. الأهم من ذلك أن يمتلك المرء حسا استراتيجيا مؤسساً على نظرة تكاملية للإشكالية.. وفي الكتابة بشكل مهني وواقعي وعلمي.
ـ تميزت البيئة العراقية.. وما زالت بعنصر القسر والعنف لم تعرفه المدنيات القديمة ولا الجديدة.. فدجلة والفرات يفيضان على غير انتظار أو انتظام فيحطمان سدود الإنسان ويغرقان مزارعه عمود الحياة.
ـ لا تتوقف الحالة على الطبيعة فحسب.. رياح لاهبة تخنق المرء بغبارها وأمطارها عاتية تحول الصلب من الأرض إلى بحر من الطين.. وتسلب الإنسان حرية الحركة.. بل على مجمل الحياة في العراق وعلى طول الحقب التاريخية.
ـ كما أن أللا وعي الجمعي للعراقيين.. وحتى حالة الوعي الجمعي قد أعدهم للتعامل مع عدم الاستقرار طوال تاريخهم المشحون بالعنف.. وجعلهم يتعاملون مع الدولة والحاكم.. بوصفه جزء من الآلهة.. أو مجرمين يحكمونهم.. في كل العهود.
ـ ومنذ العهد العثماني فقدً العراقيون كل شيء حسن.. وأصبح الخوف والتوجس من كل حاكم مرتبطا شرطياً في أذهانهم بعدم الاستقرار.. كما إن التخلف لازم العراق حتى في أوج عصره الذهبي.
إن تاريخنا السياسي المعاصر خيمً عليه شبح الدكتاتوريات العسكرية حتى نيسان 2004.. وجاءت سلسلة من الدساتير المؤقتة سرعان ما كانت تُركنُ على الرف لتمثل وضعاً مؤقتاً مشؤوماً.. وحتى قانون إدارة الدولة بعد الغزو الأمريكي.. لم يحمل الصفة المشؤومة (مؤقت).. بل أطلقت عليه صفة (انتقالي) وليس (مؤقت) لتحاشي الانطباع القائم للمؤقت.. حتى إن أحد المتحدثين باسم أحد أعضاء مجلس الحكم يتشنج بالانفعال عندما تمت الإشارة إلى مجلس الحكم بصفة المؤقت.. وطالب بإسباغ صفة الانتقالي على المجلس بدلاً من المؤقت.. وكأن هذه الكلمة شتيمة وعار ينبغي أن لا تقترن بأي مؤسسة أو وثيقة رسمية.. ومنذ 2004 حتى اليوم والى ما شاء الله لن نعرف الاستقرار يوماً واحداً!!
لكن السؤال الملح:
ـ هل حقا نحن بحاجة لدولة مؤهلة لضبط حدود الحريات والحقوق.. وتوازن المصالح في مناخ يتسم بالأمن الجماعي.. والاستقرار السياسي والاجتماعي.
ـ وهل حقاً نحن بحاجة ونرنوا.. لأمن حقيقي.. وتنمية مستدامة.. وإنهاء حالة العنف.. والحاكم المستبد.. أو الحاكم المقدس ؟.
ـ وهل حقا نحن بحاجة لدولة مدنية قائمة على المواطنة.. بلا عشائرية.. ولا ب “أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”.. وبلا بتقبيل يد (السيد.. والحاكم الظالم.. أو حتى الحاكم الديمقراطي).. أو الانحناء له ؟.
ـ وهل حقا نحن بحاجة لحاكم “خادم الشعب”.. يطبق القانون على نفسه.. وأسرته.. وعشيرته.. وخدمه.. وحمايته ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ـ مطالب وأمنيات عسيرة.. لكن لو تحققت.. لرفضناها.. وقلنا هذا حاكم ضعيف.. أو نتهمه أي اتهام آخر.. ونعمل على استبداله أو إقالته!!.أو السكوت عند الانقلاب عليه!!.. والأمثلة كثيرة أمامنا: (نوري السعيد.. عبد الرحمن البزاز.. عبد الرحمن محمد عارف.. ناجي طالب.. وأخيراً حيدر ألعبادي)!! بل حتى لم نذكرهم بخير.. (أرجو ان لا تنشغلوا بهذه الأسماء قد نختلف عليها) لكن ليست هي موضوعنا.
ـ الاستقرار في المفهوم العام في العقلية العراقية ليس الدولة المدنية والحريات والحقوق والواجبات.. بل في غالبية تفكيرنا قائم على حاكم قوي!! يحمل بيده السوط أو الرشاشة.. ويلغي كل حقوقنا.
فما زلنا نعتبر الاستقرار في ظل النظام السابق الذي أخذ طابعاً بوليسياً مقيتاً..هو الاستقرار الحقيقي.. وبعد إن انهارت القشرة الرقيقة لهذا الاستقرار المؤسس على توفير الأمن الكاذب.. لم يفعل غزو الولايات المتحدة للعراق شيئاً لاستعادة الاستقرار أو لتوفيره.. بل نعيش اليوم بلا دولة.. بلا أمن.. بلا تنمية.. بلا قانون.
تاريخ أللا استقرار في العراق:
(سوف لا نتعمق بسبر غور التاريخ العراقي ودراسة أللا استقرار في العراق.. سواء قبل الإسلام أو خلال العهد الإسلامي.. أو خلال عهديه الأموي والعباسي.. أو بعد أن أصبح اًلعراق جزءاً من إمبراطوريات عديدة.. يحكمه حتى العبيد!!
(ألا استقرار) لازم العراق في كل تلك العهود.. بل سنقتصر على دراسة مكثفة جداً عن العراق المعاصر.. ونمهد له بدراسة أللا استقرار في العهد العثماني).
ـ لم يشهد العراق في العهد العثماني الاستقرار.. فالولايات الثلاثة (بغداد.. والموصل.. والبصرة).. كانت تعيش ظروف تخلف كبير في مختلف أوجه الحياة.. وغياب التعليم.. والصحة.. والسدود.. والمشاريع العمرانية.. والزراعة كانت بدائية.. والضرائب الكبيرة المفروضة على الزراعة والمواطن.. والفيضانات المستمرة.. لعدم وجود سدود وخزانات لمياه الفيضانات.. والأمراض والأوبئة بلا علاج لها.. كل ذلك جعل البلد في حالة من أللا استقرار.. إضافة الى ثورات العشائر.. وثورات في بغداد بشكل خاص.
ـ شكلت الحرب العالمية الأولى فترة أللا استقرار.. ونفير عام.. وحرب بين القوات العثمانية والقوات البريطانية.. فشارك العراقيون في تلك الحرب سواء بإرادتهم أم بالإجبار.
ـ بعد قيام ثورة العشرين: (1920)على المحتل البريطاني.. عمً ألا استقرار كل العراق.. ليتوقف مؤقتاً.. عند اختيار فيصل بن الشريف حسين ملكاً على العراق.. وخلال الاستفتاء الذي جرى في كل مدن العراق لمبايعة فيصل ملكاً على العراق.. رفض الأكراد المشاركة في الاستفتاء… وهي أولى الخطوات نحو أللا استقرار في الدولة العراقية الجديدة.
ـ وجاءت اتفاقية البريطانية ـ العراقية منذ العام 1925 لتخلق حالة من عدم الاستقرار لرفض العراقيين القبول بها.. وفرضت عليهم بالقوة.
ـ استمرت المعارضة وثورات العشائر في العراق.. بل واستثمرت بشكل سيء أو طائفي أو قومي.. من قبل بعض رؤوساء الوزارات لتصفية معارضيهم.. خاصة (في العهد الملكي من قبل رؤوساء الوزارات: عبد المحسن السعدون.. وياسين الهاشمي.. وبكر صدقي.. ورشيد عالي الكيلاني.. وفي العهد الجمهوري في عهد عبد الكريم قاسم عمت الفوضى وألا استقرار كذلك في حكم البعث الأول والثاني.. التصفية الجماعية للشيعة والكورد الفيليين.. والأكراد في كردستان في عهد البكر وصدام.. وخلال الحرب العراقية ـ الإيرانية.
ـ استمرت ظروف أللا استقرار بعد 2003 حتى اليوم وسوف تستمر.. من قبل كل الحكام والمسؤولين الشيعة والسنة والأكراد.. لترتكب اكبر جريمة بحق العراق (الحرب الطائفية وما تبعها من احتلال داعش للمحافظات العراقية الغربية.. وما زالت ولم تخفت حتى ألان).
هل من معالجات لوضع أللا استقرار ؟:
لا يكن القول إن هناك معالجات حقيقية لحالة أللا استقرار في كل الحقب التاريخية التي مرً بها العراق.. فكانت السلطة نفسها أو جزءاً من قيادتها طائفية أصلاً.. أو عنصرية مقيتة.. وهي: تحاول فرض عنصريتها وطائفيتها على كل الشعب.. فهي أصلا تريد فرض الاستقرار بأدوات أللا استقرار.. وهذا مستحيل.
ـ على المدى القريب ليس هناك حلولاً حقيقية لحالة أللا استقرار في العراق.. يمكن القول على مدى 15ـ 20 سنة المقبلة.. تبدأ تتحقق مرحلة الهدوء السياسي في العراق.. وتبدأ بعد إعادة النظر في الدستور والقوانين بما يلبي حالة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وقيام نظام سياسي حقيقي.. وإنهاء لمراحل التخلف.. والفساد.. وفرض إرادات الآخرين على المجتمع.
ـ فالتهيئة والإعداد لمرحلة الهدوء كمرحلة للاستقرار.. لابد من إعادة كتابة دستور ديمقراطي ومدني حقيقي.. قائم على المواطنة.. يساوي حقا بين العراقيين.. وبين الرجل والمرأة.. وينهي تعدد القوانين.. وتطبق على العراقيين.. القوانين المدنية بلا استثناء.. وليس غيرها.
ـ إنهاء عسكرة المجتمع والعشائرية.. ولا قوة غير جيش واحد.. وشرطة وطنية واحدة..
ـ الحاكم.. خادم الشعب.. ويأتي عبر صناديق الاقتراح.. بانتخابات نزيهة.. ولدورة واحدة فقط.. لا حمايات لممثل الشعب.. ولا للوزراء.. ولا للوكلاء.. ولا للكتل سياسية.. الكل تخضع للقانون.. لا صور.. ولا جداريات لأي كان.. ومهما كان.. لا غطاء ديني لأية فعالية سياسية أبداً.