إستكمالا لبحثنا “بدايات ألإسلام” سنستعرض في سلسلة من ألمقالات ألرواية ألسريانية للفتوحات ألإسلامية وما يهمنا في هذه البحوث إلقاء ألضوء على تاريخية ألنبي محمّد وألخلفاء ألراشدين، حيث برز في ألسنوات ألأخيرة إتّجاه بين بعض ألمستشرقين، الذين يدافعون عن الرأي القائل بأن الإسلام قد جاء في بداياته كظاهرة هرطقة مسيحية تطورت في صفوف مسيحيين من شرق إيران ينتمون في الأصل إلى مبعدين من بلاد ما بين النهرين (من هاترا على وجه الخصوص).
وربما يكون هؤلاء قد استولوا على الحكم بعد انهيار مملكة الساسانيين في سنة 622 م، وبذلك استطاعوا أن ينقلوا تعاليم مسيحيتهم إلى دمشق والقدس (أورشليم)، حيث تم في أواخر القرن السابع (على عهد حكم عبد الملك) نقل هذه التعاليم المستجلبة من إيران من السريانية إلى خليط لغوي متكون من السريانية والآرامية والعربية.
كما أنّ هذه ألمجموعة تدعي بأنّ ألنبي محمّد لا وجود له وكذلك فإنّ الخلفاء ألراشدين شخصيات وهمية.
ألرواية السريانية للفتوحات الإسلامية تتضمن رواية جديدة للفتوح الإسلامية لبيت المقدس وما حولها، هذه الرواية كانت طي الكتمان في صفحات التاريخ مئات السنين، ذلك أنّها لم تكتب بأللغة العربية أول مرة ولم تترجم إليها منذ كُتبت، وهذه الرواية ألمهمة الجديدة هي الرواية التي كتبها المؤرخون السريان الذين كانوا شهودا على الوقائع ورأوا الكثير منها.
وتتميز الرواية السريانية للفتوح الإسلامية عن الروايات العربية أنّها دُونت في فترات مبكرة مقارنة بالروايات العربية الإسلامية التي تأخر تدوينها نسبيا – بالرغم من إعتماد الأخيرة على الإسناد لضمان الدقة – وهو ما تسبب في تعدد الروايات العربية الإسلامية بل تناقض بعضها تبعا لقوة الراوي أو ضعفه.
أعتمد هذا البحث للروايات السريانية على عدة مصادر سريانية منها:
– تاريخ ميخائيل الكبير
– تاريخ التلمحري
– تاريخ يوحنا الآسيوي
– تاريخ الزوقنيني
ترد الكثير من الوقائع مؤرخة بالتاريخ اليوناني وهو الذي يعتمده السريان في التقويم. ويُسمى تقويم الأسكندر وتقويم السرياني أو التقويم اليوناني أو تاريخ ذي القرنين.
ويبدأ هذا التقويم يوم الإثنين ألأول من تشرين ألأول (أكتوبر) سنة 312 ق.م. فهو متقدم على التاريخ الميلادي 311 سنة وثلاثة أشهر، والسنة في هذا التقويم 12 شهرا مجموع أيامها 365 يوما للسنة البسيطة و 366 يوما للسنة الكبيسة.
تُعد المصادر التاريخية السريانية ثروة حقيقية لأي باحث يدرس تاريخ الفتوح العربية الإسلامية في أواسط القرن السابع الميلادي، فهذه المصادر توفر رواية حيادية إلى حد ما بين الروايتين الإسلامية بمختلف تشعباتها، وبين الرواية البيزنطية المقتضبة التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع.
ومع أنّ الرواية السريانية لأخبار هذه الفتوح تعاني من ثغرات علمية لا بأس بها، إلا أنّها بالنظر ألى الروايات الأخرى المتوفرة تُعد من أكثر المصادر تماسكا وإنسجاما، نظرا لأنّ السريان دونوا الأحداث في وقتها، وقد توفر لهم أكثر من مؤرخ معاصر زمن الفتوحات، فدوّن ما وصله عبر وسائل مختلفة، منها الأخبار التي كان الجنود السريان العاملون ضمن القوات البيزنطية يتناولونها، أو عبر التقارير والرسائل الكنسية التي كان يدونها الأساقفة ورجال الدين، أو عبر الإطلاع على الموقف العربي الإسلامي من خلال العرب المسيحيين والسريان الذين شاركوا العرب المسلمين في القتال ضد البيزنطيين.
وعليه فإنّ أهم الملاحظات التي يُمكن أن توجه للرواية السريانية المتعلقة بالفتوح الإسلامية تُلّخص في أنّ ناقليها لم يكونوا في مركز صنع القرار، وربما كانوا هامشيين بالنسبة لموقع القرار، إن كان على الجانب العربي الإسلامي أو على الجانب البيزنطي، بإستثناء شهادة القائد إيوانيس رصفيا (يوحنا الرصافي) التي استوعبها المؤرخ ديونيسيوس التلمحري.
ومع ذلك فإنّ الوقائع التي تنقلها الرواية السريانية تسد بعض الثغرات في الروايات العربية المتشعبة والمتناقضة أحيانا، وتقدم معلومات جديدة لم تنتبه لها باقي الروايات العربية والبيزنطية وخصوصا لجهة الوضع الداخلي على الجبهة الفارسية والإنقسامات التي حدثت فيها ومشاركة قادة من الفرس إلى جانب البيزنطيين في معركة اليرموك.
غير أنّ الروايات السريانية على صعيد آخر تعاني من مشكلة الطبوغرافيا، وخصوصا تلك المتعلقة بجنوب بلاد الشام، فالباحث المدقق يلحظ الخلط في هذا الجانب، مع أنّه من السهل تصويبه بالإعتماد على المصادر الأخرى، وهو خلط يُمكن تفهمه من رواة تبدو علاقتهم بجغرافية سورية الجنوبية ضحلة، مقارنة مع علاقتهم بجغرافية سورية الشمالية، التي هي موطن الرواة المتعددين، بألإضافة إلى التركيز على موضوع العقاب الإلهي الذي حلّ بالبيزنطيين والفرس مضطهدي السريان على حد سواء.
قيام دولة ألإسلام في يثرب:
ألنص ألتالي هي ترجمة معظم التقرير الكنسي الذي اعده رجال دين سريان عندما ظهرت الدعوة الإسلامية، ملخصين ما عرفوه عن هذا الدين الجديد، رغم ما في ذلك من بعض المغالطات التي أُضيفت في فترات لاحقة.
وقد ورد في تاريخ ميخائيل الكبير (ت خ،ج3 ص 298 – 300) وفي تاريخ الرهاوي المجهول بالنص نفسه (ص 139 – 141)، وكذلك في تاريخ ابن العبري بشيء من التصرف، وبكثير من الإختصار في تاريخ الزوقنيني المنحول (ص 52).
ترجمة ألنص:
(( في سنة 933 يونانية، والثانية عشرة لهرقل، وال 32 لكسرى، بدأت دولة العرب (المسلمين) عندما جاء إلى منطقة يثرب محمّد من قبيلة قريش، وقال إنّه نبي، ودعى أتباعه “مسلمين” أو “إسماعيليين” أو “هاجريين” نسبة إلى هاجر وإسماعيل، وسرقيين نسبة إلى سارة (السراسين أو السراكين هي التسمية التي كان يطلقها الروم على العرب)، ومذيانيين أبناء قنطور.
ولكن ولأن تعددت تسميتهم، غير أنّ إسمهم العام هو “ألعرب” وهم يُطلقون على نفسهم هذه التسمية وهي مأخوذة من العربية الخصبة التي هي موطنهم، وهي المنطقة المحصورة بين نهر الفرات شمالا حتى البحر الجنوبي، ومن البحر الأحمر حتى خليج بحر فارس شرقا.
كان محمّد بن عبدالله يذهب إلى فلسطين للتجارة .. وإذا رأى أبناء شعبه يتعبدون للحجارة والخشب وغيرها من المخلوقات … طرح عبادة ألله على أبناء أمته فأطاعته قلة في باديء ألأمر، ثمّ أخذوا بالتزايد، وإذ قوي أخذ يأمرهم رسميا بإطاعة الخالق، مُرهبا حيناً ومُرغباً حينا آخر.
وحينما يمتدح أرض فلسطين بقوله: لقد أعطيت تلك الأرض الطيبة لأولئك الناس، نظرا إلى إيمانهم بألله الواحد، وقال لهم أيضا:
إذا أطعتموني ونبذتم هذه ألآلهة الباطلة وآمنتم بألله الواحد، فإنّ ألله سيعطيكم تلك ألأرض الطيبة ………… ووضع للمسلمين شريعة قال إنّ ألله أنزلها عليه.
فعلمهم أن يؤمنوا بإله واحد خالق الكل وأقنوم واحد لم يولد ولم يلد ولم يكن له كفء أو شريك، وهو يقبل أسفار موسى وألأنبياء وقسما من ألإنجيل، لكنه ترك معظمه، ومال إلى ألأمور البسيطة.
أمّا نظرته إلى ألمسيح فهي: أنّ ألمسيح هو الذي تنبأ عن مجيئه الأنبياء، لكن كإنسان بار ونبي كسائر الأنبياء، وليس كإله أو أبن ألله كما نؤمن نحن المسيحيين، غير أنّه أكبر من سائر ألأنبياء لأنّه لم يولد من زواج بل بكلمة ألله نفخها في مريم كما نفخ في آدم فخُلق من ألتراب، ثمّ نفخ فيه الروح القدس فأستقام، لذا فهم يسمونه أحيانا كلمة ألله وروحه على إعتبار أنّه عبد وخليقة كلمة ألله، وهذا بدلا من عبارة (أبن ألله) التي نتداولها نحن، لأنّه ولد منه دون ألم كولادة الكلمة من العقل.
إنّهم ينظرون إليه نظرة مادية، ويتهموننا بأننا نؤمن بأنّ الله أولده من امرأة وهي في نظرهم مريم أخت هارون وموسى.
أمّا عن صلب اليهود للمسيح فإنّ معظمهم لا يعترفون به، لكنهم يقولون، أنّ ألله ألقى شبهه على أحد تلاميذه فصُلب ومات، أما المسيح فتوارى، حيث أنّ ألله أخذه إلى الفردوس.
إنّهم يصلّون خمس مرات في اليوم، في كل صلاة يركعون أربع ركعات.
يؤمنون بقيامة الأموات والحساب والمجازاة، كل بحسب أعماله.
إنّهم مغرمون بمحبة العالم .. وألأكل والشرب وأللبس وتعدد ألزوجات، ولا مانع من أن يطلّق أحد زوجته ويتزوج بأخرى.
يصومون ثلاثين يوما طوال النهار ويأكلون طوال الليل حتى الفجر.
يتوضؤون بألماء قبل الصلاة ويغسلون أعضائهم وفي حالة إقترابهم من ألمرأة أو ألإحتلام يطهرون جسمهم كله ومن ثمّ يصلّون، وقبلتهم هي ألكعبة حيثما كانوا، وهم يُمارسون الختان ذكورا وإناثا، دون أن يتقيدوا بشريعة موسى التي تقضي بأن يتم الختان في اليوم الثامن، لكنهم يختنون في اية سن كانت )).
يتبع
ألمصادر :
– ألرواية السريانية للفتوحات ألإسلامية – ألكاتب تيسير خلف