في مقالنا حول (الحبّ) و يوم (الحبّ العالميّ) .. وصلتني تعليقاتٌ كثيرةٌ ناكرة .. مِمَّنْ تحجّرتْ قلوبهم كما عقولهم رافضة كلّ ما يتعلق بآلحبّ و العشق, و لم أستغرب من ذلك .. لمعرفتي بالمحدّدات الثقافية و المذهبية و الفقهيّة التقليدية ألمتوارثة التي كبّلت عقولهم كما قلوبهم المريضة بقوالب فقهيّة أصبحت ليس فقط لا تنفعهم .. بل سبّبتْ قساوة قلوبهم و صارت وبالاً عليهم و على من يعيشون معهم أو يعيلونهم أو يترأسونهم في بيوتهم أو محيط عملهم و دوائرهم و دولهم التي عجّتْ منها روائح الظلم و الفساد النتنة بحيث شاركهم في تلك السرقات الكبيرة بشغفٍ ليس فقط العلمانيون .. بل حتى الذّين يدّعون الدِّين و آلآيات و المراجع العظام و يصلّون صلاة الليل ..
فالعقائد المُتحجّرة المتوارثة هي التي أفسدت عقيدتهم بعد ما خلّفتْ و خلقتْ و شرّعتْ لهم كلّ تلك الفوضى و الأرهاب و الفساد .. تلك العقائد التي لم تنفع الأحياء كما لم تنفع الجّمادات بشيئ سوى تكريس المحن و تكثير العنف و إشاعة القسوة بين حامليها ..
و علّة العلل في كلّ ذلك هو الجّهل بحقيقة الحياة و فلسفة الوجود .. فحتى الصّخر و الحجارة الصلدة تربطها مع المُكونات الأخرى الطبيعية من حولها لغة و علاقات معقّدة للتآلف و الحّب و الأنتاج ..
لغة و علاقات .. لا يدركها إلا أهل القلوب من بعض آلحكماء و ليس كلّهم, كنبيّنا سليمان و الخضر و رسولنا الكريم و وليّنا آلأمام و آلحكماء العرفاء عليهم السلام!
ألمحبّة لغة عالميّة .. بل كونيّة لا ينكرها إلا أصحب القلوب المتحجرة القاسية التي جاء وصفهم في القرآن بآلذين قست قلوبهم, و قد أقرها الله تعالى – أي المحبة – كأصل للوجود و الحياة لتنسجم جميع المخلوقات و تسعى معاً بشكل طبيعي بحسب أنظمة معقدة للغاية ضمن دائرة الأفلاك لخدمة الأنسان, و أنّى للتقليديين الّذين ركنوا للجّهل و لمجموعة من المسائل الفقهية بألمتحجّرة التي ما خدمت لا السابقين و لا اللاحقين و لا الحاليين؛ بل أردتهم جميعاً في مهاوي آلرّدى و الذّل و التّخلف و العنف و الأرهاب و القسوة و التّنفر ليتسلط الظالمين عليهم على الدّوام و هم يصفقون لهم من الأمام و يعطونهم ظهورهم من الخلف أنى شاؤوا!
و هكذا على طول الخط كان حال العربان و أهل العراق الّذين أصابهم الخيلاء و النّفاق مُذْ وجدوا على الأرض, و حالهم الآن خير دليل على ما أوردنا؛ هذا بعد ما رفضوا إسلام الحقّ المُبين برفضهم لمذهب (الحبّ الألهيّ المُقدّس) الذي يؤطر الأسلام الذي بيّنهُ السّلام و الرّسول و الأئمة الميامين و العرفاء الذين جميعهم إستشهدوا لحبهم ليس فقط للأنسانية و لعباد الله .. بل لكلّ المخلوقاتّ ألتي لا تؤدي عملها بشكلٍ كامل إلّا مع نغمات الحبّ المتصل بآلمعشوق الأزلي.
الحُبّ لا ينحصر بين إثنين من أجل (العملية الجنسيّة) فقط و كما فهمه و يفهمه أكثر الناس لتفريغ الشّحنات و النزوات الجنسيّة التي تُحدّد أصل آلعلاقة الزوجيّة في لحظات و التي لا يرى سواها و كأن العلاقة آلجنسية وحدها تحوي ملذات الدُّنيا وغاية المنى و من ينافسه أو يمنعه عن ذلك فهو العدو الأكبر المبين و لا بد أن تقوم القيامة عليه!
ألحب لا يختصّ بنزوات و ملذات آنية أو تحقيق رغبات أو تفريغ غضب على رؤوس بني الإنسان و لا تعني مجرّد علاقات عاطفية لأشباع الشهوات بين المخلوقات .. بل الحبّ في أسمى معانيه و أهدافه لغة العالم و ديدنه و سرّ بقاء حياة المخلوقات و لا يحتاج إلى مترجم ..
بكلمة واحدة ؛ ما وجد الكون إلّا لأجل العشق الذي وحده يجلب الصّفاء و الرّحمة التي جاء لأجلها الرسول
[و ما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين] و التي بها نُمهّد للأتحاد و آلألفة و التّعاون و الإيثار للبناء الحضاري لتحقيق السّعادة لكل المجتمع بلا إستثناء!
هذه قضية كبيرة تمثل خلاصة المفاهيم والأحكام و الأصول والعقائد الأسلامية .. و لا يعيها و لا يعقلها حتى المفكريين إلا بعد أسفار و أسفار و هنّات و محطات يشيب لها الرأس ..
فكيف بآلنّاس العاديين و المؤمنين المُقلدين لمراجع الفقه التقليدي المتحجّر الّلذين تحجّرت قلوبهم و باتوا لا يرون شيئاً من آفاق الدنيا كما آفاق النفوس إلا من خلال بضع مسائل فقهية في (رسالة عملية) يُقلدهم فيها عوام الناس الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق من أجل دكاكينهم!؟
و إنّ كلّ المخلوقات في الكون .. بضمنها الطبيعة التي يعتبرها الفيزيائيون غير عاقلة للأسف؛ تعتاش على الحبّ و تعمل و تحيا من أجل المعشوق و العاشقين بتحقيق العطاء المتبادل بين مكوناتها لتحقيق التوازن و الألفة وآلمحبة و الأنسجام بين جميع المخلوقات بإختلاف أدوراها و أطوارها و كما أشرنا في همستنا السّابقة رقم (50)!
فآلجبال و الأشجار تتكأ على الأرض لأدامة عطائها, و الأنسان يتكأ على الحبّ في عطائه و إبداعهّ
و بغير ذلك فإنّ حركة الأبداع في الحياة تتوقف و لا يسود التوازن و الأنسجام و آلتطور بين عناصرها العديدة المختلفة و المعقدة للغاية لتأدية رسائلها التي وجدت من أجلها!
بل لولا ذلك الحبّ و العطاء المتبادل لأعلنت كلّ المخلوقات حتى الطبيعة نفسها؛ الثورة و حالة الغضب و التّنفر بعضها من بعض و لأحترق الكلّ بنار الغيرة و الحسد و التكبر و العلو الذي يُغذيها الشيطان الرجيم لهم بعد ما عادي المحبة و العشق و الوئام و التواضع منها أمام الخالق العظيم.
و لا يقتصر الحبّ و التآلف بين بني البشر فقط كما أشرنا .. بل يشترك بذلك كل المخلوقات, فعالم الحيوان الذي هو عالم أدنى من عالم الأنسان بدرجات بحسب المراتب الخلقية؛ تتصّف حياة بعضها أو كلّها بمشاعر الحبّ في أنقى و أعلى صورها، فآلسّنجاب (السّكويرل) حيوان يعرف الحبّ و العشق و الوفاء و الرّحمة لعائلته ربما أكثر من بني الأنسان الذي يقهر و يقتل و يُهين بني جنسه من أجل المال و الشهوات و أحياناً لأشياء تافهة, فهذا الحيوان اللطيف الصغير (السنجاب) وهو نوع من أنواع الحيوانات الذي نسميه في العراق بـ (جردي النّخل) لا يُعَمّر طويلاً سوى أقلّ من سنتين .. نراه يسعى خلال عمره القصير و بكلّ ما أمكنه لإطعام و إيواء و حراسة عائلته, و آلجّميل أنّهُ عندما يقترب أجله و ساعة موته كأيّ مخلوقٍ حيّ يترك بيته و يبتعد عنه و عن أطفاله و زوجه و يتّخذ مكاناً قصيّاً ليموت بصمتٍ و هدوء بلا ضجيج أو أية علامات أو أخبار حتى لا يُسبّبَ الحزن لعائلته بموته!
و هكذا يأتي وفاء الكلب لصاحبه كدرس كبير لنا لنقف عنده و نتعلم منه الدّروس العظيمة, ذلك الوفاء الذي لا يضاهيه وفاء أيّ مخلوق لصاحبه أو لزوجته .. سوى وفاء العباس(ع) لأخيه الحسين(ع) في يوم عاشوراء, و فوق كل ذلك وفاء الأمام الحسين(ع) لمعشوقه في حادثة مأساوية أجمعت عقلاء البشرية بأنها لا و لن تتكرّر!
هذه الّلوحات الكونيّة الخالدة لمخلوقات الله تعالى تُظهر لنا عظمة الحبّ و قدسيته كعاطفة فطرية متأصلة في القلوب الحيّة النابضة، و لا تحتاج إلى تمرين أو تعليم أو تهذيب أو فنون وإنما هي فطرة الله التي إن حافظ عليها صاحبها من التلوث بآلذنوب؛ فأنها تجد طريقها إلى أصحاب القلوب النقيّة التي تطبعت على الخير و تناغم وجودها مع موسيقى الطبيعة .. التي تشكل بمجموعها فرقة تشبه الفرقة السيمفونية التي تنشر في هذا الوجود نغمات موزونة عذبة و معبرة و خالدة لا تنتهي حتى بعد القيامة!
ملاحظة: لمعرفة كُنه الهمسة عليك مطالعة الهمسات السّابقة.