23 ديسمبر، 2024 3:39 م

ألا يمكن أن نحلم بأننا نستيقظ..؟

ألا يمكن أن نحلم بأننا نستيقظ..؟

قراءة في نص الاديب المغربي زهير الفارسي
منطقة رمادية
المقدمة
الانطباع النقدي
ان الاسلوب المتبع بهذا النص اسلوب  فلسفي رمزي يعكس امكانية الكاتب الشاب زهير الفارسي الذي ينتمي الى الثلة من الكتاب  الشباب في المغرب العربي والذين تأثروا بالجوار الاوربي وخرجوا تماما من غرف انعاش السرد الاخباري المجرد من الاسناد الوعظي الذي يسعى اليه الكثير من كتابنا العرب و الذي يهتم بالأحداث المستهلكة اليومية فقط واتجهوا نحو الاسلوب الابداعي المقرن بالخلفية  الاخلاقية او الاجتماعية التي تعطي دروسا في المتابعة الدقيقة للارهاصات والظواهر السلبية التي تسكن المجتمع وأتبعوا المدرسة الفلسفية الرمزية  للالتحاق بركب الكتاب العالمين في هذا المنحى الادبي الرصين، ولو ضربنا مثالا توضيحيا على هذا المنحى الرمزي سيكون  الروائي الامريكي ارنست همنكواي في الشيخ والبحر نصب اعيننا بحبكته البسيطة لصياد يصطاد سمكة كبيرة جدا بعد خمسة وثمنانين يوما من الكفاح ، تأكلها القروش في طريق عودته الى المنزل ولكن الخلفية الاخلاقية الرمزية لتلك الحبكة البسيطة اذهلت العالم حينما اخذت اوسع تأثيرا واكثر عمقا انسانيا وفلسفيا مما يتصور المتلقي فهي تتجه نحو الصراع الانساني بين الانسان المكافح وقوى  الطبيعة وكم الاصرار لدى الانسان على تحقيق النجاح والتغلب على المصاعب في احلك الظروف واصعب الاعمار وبعض ومن النقاد من اتجه نحو الاستغلال والطمع من قبل القروش الكبيرة  في المجتمع والتي تستغل قدرات الفقراء من العمال والفلاحين حين تاكل رزقهم وتعبهم اليومي وتتركهم عظاما وهشيما انسانيا…نستنتج ..ان النص الرمزي يحتمل حبكتين الحبكة السردية والحبكة الرمزية او الخلفية الاخلاقية…..
 
 
الجمالية الادبية في النص
ينتمي هذا النص الى المدرسة الرمزية بتفوق وتحت نظرية الادب للمجتمع فقد ابدع كاتبة الاديب المغربي زهير الفارسي بنسج رمزية متفوقة في المعنى والتعبير بعد ان خلط المعقول باللا معقول حين طرح حبكة سردية خيالية رسمها بذكاء ادبي عندما وجد نفسه مستيقظا من النوم وهو لا يدري هل هو نائم ام مستيقظ وعثر على نفسه  تحت ضوء رمادي لا يشبه ضوء الصباح بجلد وزي مهرج ورافقته الشخصية تلك الى اخر سطر من النص استخدم الترميز بالخلط بين الواقعية والرمزية ليخرج النص بشكل مبهر من خلال التوازن بين الحبكتين الحبكة السردية الخيالية والحبكة الرمزية الحقيقية…جعل المتلقي يظن الوهم حقيقة من ناحية ومن اخرى يظن الحقيقة وهم ، حتى يصل المتلقي طرف الحبل الاخير فيفاجا بجملة فلسفية ذكية ان الواقع دوما ينحر الحقيقة تحت اقدام الاعتراف حين يذبح الغموض بسكين الوضوح……
يبدو الن الكاتب العبقري زهير الفارسي متأثرا بكتاب الخيال العلمي مثل الكاتب الانكليزي H.G.Wells فهو يبني كتاباته على حقائق علمية كما فعل في حبكته الرمزية في هذا النص حين انطلق من الحقيقة النفسية المتعلقة بالوعي واللاوعي  لشعب اقسم على الفرقة والتخلف ونام في سابع ارض….والنائم دوما لا يعي ما يفعل ، لذا صار فعله تهريجا ، وتصور الكاتب نفسه الواعي الوحيد داخل انبوب شفاف من زجاج ، يسير فيه ولا تمسه الا قدميه وهو ينظر في جميع الاتجاهات نحو افعال هذا الشعب الخادر في النوم والتخلف حتي وصل نهاية الانبوب الاخرى باستنتاج فلسفي جميل يضعه الكاتب بسؤال يائس ( الا نحلم يوما بالاستيقاظ…؟) وكأن الكاتب العبقري ، زهير الفارسي ، يعلن يأسه جهارا من ان هذا الشعب سوف لا يستيقظ ابدا حين وضع السؤال بحرفنة فائقة في نهاية النص وتركه بلا جواب….!
يحاول الكاتب هنا بهدوء وانسيابية مبهرة ان يضع المتلقي امام واقع خطير من ان الانسان قد يجد نفسه يوما في موقف المهرج ، فكل شيء فيه يميل الى التهريج ….الكل يتكلم الكل يصرخ الكل يهدم …يقتل …ينتهك الحرمات والشرع والقانون ……..فالتهريج ليس زيا يلبسه الانسان فقط وانما هو جلدا لا ينزعه الغسل ولا الصابون او الدعك ، ليس  للانسان بد من التخلص من هذا الزي او ان ينزع هذا الجلد مطلقا ما دام يسكن اللاشعور و مغلف بقرطاس التخلف …وهنا اشارة ذكية وتحذير مباشر من قبل الكاتب ، عصرنا هذا هو عصر التهريج ، وعلينا ان نتنبه ونحذر، قد يكون التهريج مرض يصيب  الانسان كأي مرض  عضال ربما في يوم ما يخرج لنا  مصطلحا جديدا، فيصطف التهريج مع امراضنا السارية التي لا تعد ولا تحصى…. قد يكون  اكزما تسمى اكزما التهريج او سرطانا…..!….وحسب رؤية الكاتب عودة الانسان لطبيعته الانسانية هي شيء بعيد المنال مادام يسكن اللاوعي….!… فالمهرج هو الطبيعي والطبيعي هو المهرج في هذ الاديم الخيالي الفالسفي….فقد قلب الكاتب بذكاء الطاولة فوق رؤوس الاصحاء من ذوي النفوس الضعيفة……جاء النص بتلك الجزئية وعضيا  فلسفيا يحاكي ويتحاكى مع الانسان السوي ليلقح نفسه ضد مرض التهريج و النوم ، بمصل الحكمة و الوعي … واخيرا يلقي الكاتب الفيلسوف الشاب بمفرقعة بزي قنبلة حين يظن ان الناس جميعا نياما الى درجة الغيبوبة وانه الوحيد الذي يحلم ان يرى الاستيقاظ يلوح وميضه في الحلم على الاقل……وسنبحر في النص من اعمدته الرمزية…….
رأيين: الأول يستحثني على الإستكانة ومعاودة معانقة الغياب، أما الثاني فكان يلح في طلب استجلاء أصل الألم…ملت برأسي ببط لأستطلع المكان؛ كان مليئا بالكثير من المرايا، المسطحة والمحدبة ، الصورة هي نفسها وبصيغة التعدد المختلف الأحجام، لوجه مهرج ممدد على الأرض يرسل نظرات حائرة، انقلبت صوب الاتجاه الآخر، فألفيته هناك يحملق في..أما المكان فكان مشبعا بشعاع رمادي يتسرب من الخارج ؛ ويربك الإدراك، لم أستطع أن أحدد بدقة اللحظة التي أنا فيها، أهو الفجر أم الغروب..لملمت ذاتي بصعوبة باحثا عن الصنبور، غسلت بالماء، دعكت الأدمة بالصابون و.
في تلك المنطقة من النص يمسك الكاتب بيد  المتلقي ليقوده نحو دوامة الظن بانه استيقظ من النوم في صباح رمادي لا يشبه ضوء الصباح العادي في عالم غريب غير عالمنا الارضي مليء بالانعكاسات ولا يعلم شيئا عما يحدث وقد شاهد نفسه بزي وهيئة مهرج ، يريد الكاتب ان يضع المتلقي في بودقة الحيرة ليطبخ النص على نار هادئة ، ويقحم المتلقي في دوامة التفكير والاستنتاج العقلي وهذا هو جوهر المدرسة الرمزية…من الطبيعي ان يبدأ المتلقي بالتساؤل عن جوهر المنطقة الرمادية والجلد الطبيعي للمهرج الذي ارتداه دون ان يحس ، كرداء ثابت لا يختفي بالصابون او الدعك المتواصل حتى يتوه المتلقي في هذا الخضم الرمزي اللامعقول…..
أعدت النظر في المرآة وضحكت من وجه المهرج – وليس من نفسي- فأنا لست مهرجا، هكذا قلت..ولما أعوزتني الحيلة وكنت في حاجة للهروب من المرايا ووجهي، فكرت أن أبحث عن حل لمعضلتي في الخارج؛ نظرت من فرجة النافذة،
وهنا اجهز الكاتب على ما تبقى من تفكير في ذهن المتلقي وادخله في دوامة الياس والتيه تماما وجعله يعطي احتمالات في التفسير والتحليل وشغله بقضية الشخصية الخيالية اكثر حين جعل الشخصية في حيرة من امرها والتفكير بطريقة للخروج من زي التهريج الملتصق في جلد المهرج وكيف السبيل للهروب من المرايا التي تذكره بانعكاسات هذا التهريج والنظر من فرجة النافذة للاستدلال على طريق للهروب من ذلك الموقف والشخصية والجلد معا وكأنه يريد تجسيد تلك الشخصية وقذفها عمدا في احضان الحقيقة….اكل المتلقي الطعم وبادر بالمساعدة ودخل الغرف المخدرة بارادته…..
أن ألعب دور مهرج حقيقي..مر من أمامي صبية فقمت بممازحتهم كما يفعل أي مهرج محترف ومحترم؛ تمايلت وحركت يدين منفرجتين في الهواء، قفزت.. لم يعيروني انتباههم، بل تبرموا من تصرفاتي، مع العلم أنني قمت بأداء ليس بسيئ..من بعيد تراءى لي أحدهم يمشي بطريقة تشبه مشيتي، وأنا أتابعه باهتمام، تجاوزني رجل من الخلف، كان يمشي نفس المشية، ومحياه له هيئة بهلوان..قبضت
ليسبك الدور على المتلقي بشكل اكثر، اخذ الكاتب الذكي ،زهير الفارسي، المتلقي  معه في تفكيره بطريقة الخلاص ان يثبت حقيقة غير معقولة في ذهن المتلقي لتكون معقولة فعلا ومن خلالها ينطلق لصعود سلم الايهام ليبرهن بان هذا المهرج هو شخصية حقيقة ، وفي تلك الحالة ضيق الكاتب الخناق على المتلقي ووضعه على استهلال طريق اليأس ..اما يؤمن ان تلك الشخصية حقيقية ويبدا بالتفكير متمشيا والكاتب ، او يرفض بطريقة الحدس الانساني واستيقاظ حاسة الفضول للبحث والتقصي عن جوهر الامر …..صور الكاتب ان الناس في الشارع جميعا ، نساء ورجالا هم ايضا مهرجون وهنا يلتقي خطي النص المعقول واللامعقول والوعي واللاوعي ….من ناحية الوعي والمعقول ان جميع النائمين هم مهرجين وهذا ما اراد اثباته الكاتب واشعال ضوءه…ومن الناحية الاخرى الخاصة باللامعقول واللاوعي ان الكاتب هو الواعي الوحيد في مربع النص ويقابله الواعي الاخر،  المتلقي الذي يدرك الحقيقة ….وهنا يحل اللغز ويلتقي المعقول باللامعقول والوعي باللا وعي……
أعذر ارتباكي، يا سيدي..أريد فقط معرفة اللحظة التي نحن فيها، هل هي لحظة الغروب أم الفجر؟..لوح بيمناه في الهواء وهو يغمغم ثم انصرف دون أن يجيبني…حينها قررت أن أجترح لنفسي حلا، دون أن أهتم بالآخرين، فهم على ما يبدو راضون بما حل بهم..خطرت لي فكرة؛ أن أستمر في لعب دور البهلوان لكن مع التسلح بعدته ولوازمه، أخذت الأصباغ ورحت أعيد طلاء وجهي بنفس الألوان والأشكال المرسومة عليه..فرغت، أحسست بالراحة، بل بسعادة غامرة..ذلك أنني أحسستني أستعيد طبيعتي، وقلت: الآن صرت مهرجا، لكن بالمهنة وليس بالطبيعة، وهو عمل شريف ويصنع الفرحة..قمت بحركة كدت أسقط على إثرها، حاولت تقليد كل المهرجين الذين عرفتهم من قبل..
استمر الكاتب يلعب على نفس الوتر و ما بدا به من وميض الوهم في شخصيته التهريجية التي تمر في ازمة الخلاص من هذا المأزق ونزع زي وجلد التهريج بطريقة معقولة لذلك عمد بانسيابية وحكمة من تحقيق الانفراج لعقدة النص بان يخلق  لقاء حقيقيا بين خطي النص التي تسير بشكل متواز، ان يصبغ نفسه فعلا ليدخل عالم التهريج بشكل حقيقي وهناك احس  براحة تامة…. لا ادري قد يحس بالراحة فعلا لانه فردا من هذا الشعب النائم….او لانه يريد ان يذهب بالمتلقي عميقا …ربما….؟….اجد الكاتب هنا يعتذر من اصحاب مهنة التهريج الحقيقية وينعتها بالشرف لانها تصنع الفرحة …اليس هي التي تصنع الانهيار فينا…….؟
أحسست حينها أني لا أزال في المربع الأول ولم أبرحه قط، وأن ما أتيته حتى اللحظة، ليس حلا حقيقيا يمكنني من استعادة لون بشرتي الأصلي. قدرت أن مفتاح هذا اللغز يكمن في تذكر اللحظات التي سبقت يقظتي..حاولت جاهدا ولم أفلح، بيد أنّ شعاعا باهتا لاح لي في الأفق، لما اهتديت إلى أن أصل المشكل مرتبط بغيبوبتي..ثم قلت: يا لسذاجتي!..لماذا لم أفكر من قبل، في أن الأمر لا يعدو كونه كابوسا؟..وما علي إلا أن أقرص ذاتي، فإن أنا أحسست بالألم، فذلك يعني أنني أحلم وسأستيقظ وينتهي كل شيء..
فعلت، لكني لم أر نفسي أقوم بفعل الاستيقاظ، أو أن شكلي قد تغير، لكني لم أفقد الأمل وقلت أنه يلزمني عنف أشد ..هجس لي خاطر وأنا أهم بلطم وجهي بقوة أكبر: ماذا سيغير من الأمر حتى وإن أنا أحسست نفسي أستيقظ، فمن سيثبت لي أنه ليس حلما من داخل حلم، ألا يمكن أن نحلم بأننا نستيقظ..؟
واخيرا افضى الكاتب دون ضغط  او الحاح باللغز الحقيقي لتلك الشخصية التهريجية ورمى بمفتاح اليقظة في احضان المتلقي بعد ان احس بشعاع يلوح من جوهر المعقول بوعي الكاتب المرتبط بغيبوبته او الكابوس الذي انتابه فالبسه هذه الشخصية جلدا ورداء واتضح ان كل ما فات من ارهاصات ومشاكل ، ماهي الا حلما قد تسنم وعيه في منطقة رمادية ضعيفة  هشة من تفكيره فعليه الان تنشيط تركيزه لاعادة التوازن والاتجاه نحو منطقة الوعي المضيئة بشمس المعقول الذهبية ونفض اتربة المهرج والخروج من جلباب التهريج الخيالي الذي كان ولا يزال ضربا من ضروب النوم والخدر الذي استعير ليكون باكورة رمزية لاشعال فتيل التهكم واللاذع لمجتمع ذو تاريخ عريق وصاحب حضارات عريقة هجرها وانساق مع مجريات التخلف واللامبالاة وارتمى باحضان الشر حتى بات الاخير في الركب……
نص راق …..قد تكون قراءتي له قد سبرت اغواره واغوار الكاتب …..وان لم يكن فان النص حتما اكبر من قدراتي النقدية…..تحياتي لهذا الاديب المتمكن الاستاذ ، زهير الفارسي ، ولنصه الكبير……
النص الاصلي
زهير الفارسي.
قصة قصيرة
المغرب
منطقة رمادية
كنت أشعر بحمل ثقيل يجثم على رأسي، وبأضلعي كأنها حررت للتو من بين فكي ملزمة، فتحت عيني بعسر، كنت أتأرجح بين رأيين: الأول يستحثني على الإستكانة ومعاودة معانقة الغياب، أما الثاني فكان يلح في طلب استجلاء أصل الألم…ملت برأسي ببط لأستطلع المكان؛ كان مليئا بالكثير من المرايا، المسطحة والمحدبة ، الصورة هي نفسها وبصيغة التعدد المختلف الأحجام، لوجه مهرج ممدد على الأرض يرسل نظرات حائرة، انقلبت صوب الاتجاه الآخر، فألفيته هناك يحملق في..أما المكان فكان مشبعا بشعاع رمادي يتسرب من الخارج ؛ ويربك الإدراك، لم أستطع أن أحدد بدقة اللحظة التي أنا فيها، أهو الفجر أم الغروب..لملمت ذاتي بصعوبة باحثا عن الصنبور، غسلت بالماء، دعكت الأدمة بالصابون و.. لكن دون جدوى. جعلت أتفحص نتوءات بشرتي لعلي أجد طرف قشرة أنزعها، كما تنزع الرسومات اللاصقة، فلم أجد غير بشرة مشربة بالألوان كأنها وشم..وددت لو أن وجهي مليء بالتجاعيد الغائرة لأوغل أظافري وأنزع اللصاق…حملقت مرة أخرى في المرآة، تحركت رموشي بخفة وانبسطت أساريري من دون إرادة، حاولت رسم ملامح الجد لكن عبثا، بل كانت تقاسيمي تستحيل أكثر غرابة كلما زاد إصراري؛ رغم أنني أحس بنفسي جادا، بل معتكر المزاج، لكن ابتسامة المهرج كانت أكثر عنادا. هدأت من روعي واستعدت بعضا من توازني النفسي، أعدت النظر في المرآة وضحكت من وجه المهرج – وليس من نفسي- فأنا لست مهرجا، هكذا قلت..ولما أعوزتني الحيلة وكنت في حاجة للهروب من المرايا ووجهي، فكرت أن أبحث عن حل لمعضلتي في الخارج؛ نظرت من فرجة النافذة، شبه ملتصق بالحائط، كانت الأزقة فارغة، تشجعت على الاقتراب من الباب، ترددت مطولا، وددت حينها لو أن وجهي كان في قدمي، أو على الأقل لو أمكن أن ألصق بها عيني، لأمدها وأستطلع ما يوجد في الخارج..كان الشارع لا يزال خاليا، فرحت وقلت: هذا أفضل..على الأقل سيكون أمامي قليل من الوقت، لأعدّ نفسي..
فكرت مطولا قبل أن أخرج لملاقاة الناس، ثم قررت أن ألعب دور مهرج حقيقي..مر من أمامي صبية فقمت بممازحتهم كما يفعل أي مهرج محترف ومحترم؛ تمايلت وحركت يدين منفرجتين في الهواء، قفزت.. لم يعيروني انتباههم، بل تبرموا من تصرفاتي، مع العلم أنني قمت بأداء ليس بسيئ..من بعيد تراءى لي أحدهم يمشي بطريقة تشبه مشيتي، وأنا أتابعه باهتمام، تجاوزني رجل من الخلف، كان يمشي نفس المشية، ومحياه له هيئة بهلوان..قبضت على رأسي بكلتا يدي وقلت:”يا ألله، فهل أنا أهلوس، أم أكذب على نفسي لأداري حقيقتي؟”.. ثم ما لبث أن مر ثالث، ورابع..كان لكل رجال ونساء المدينة وجوه المهرجين.
دنوت من أحدهم، متحججا بسؤاله عن الساعة، وجعلت أتجاذب معه أطراف الحديث.. أجابني متعجبا:
-لست أعرف عما تتحدث..؟!
-أسألك عن الساعة..أقصد الوقت..ربما أصابني مكروه ما، فأنا لا أحس بأنني بخير، لذا أعذر ارتباكي، يا سيدي..أريد فقط معرفة اللحظة التي نحن فيها، هل هي لحظة الغروب أم الفجر؟
لوح بيمناه في الهواء وهو يغمغم ثم انصرف دون أن يجيبني…حينها قررت أن أجترح لنفسي حلا، دون أن أهتم بالآخرين، فهم على ما يبدو راضون بما حل بهم..خطرت لي فكرة؛ أن أستمر في لعب دور البهلوان لكن مع التسلح بعدته ولوازمه، أخذت الأصباغ ورحت أعيد طلاء وجهي بنفس الألوان والأشكال المرسومة عليه..فرغت، أحسست بالراحة، بل بسعادة غامرة..ذلك أنني أحسستني أستعيد طبيعتي، وقلت: الآن صرت مهرجا، لكن بالمهنة وليس بالطبيعة، وهو عمل شريف ويصنع الفرحة..قمت بحركة كدت أسقط على إثرها، حاولت تقليد كل المهرجين الذين عرفتهم من قبل..شيئا فشيئا أصبح أدائي أكثر إتقانا.. تخيلت أن الجمهور يقف ويصفق لي مطولا، ويدعوني لإعادة لوحاتي، ازدادت حماستي، ورحت تارة أقوم بحركات، وتارة أدوّن بعض الملاحظات، حتى إذا استنفدت قواي جلست، وتصببت حتى عرقا أذاب الطلاء، وتلاشت معه فرحتي..
أحسست حينها أني لا أزال في المربع الأول ولم أبرحه قط، وأن ما أتيته حتى اللحظة، ليس حلا حقيقيا يمكنني من استعادة لون بشرتي الأصلي. قدرت أن مفتاح هذا اللغز يكمن في تذكر اللحظات التي سبقت يقظتي..حاولت جاهدا ولم أفلح، بيد أنّ شعاعا باهتا لاح لي في الأفق، لما اهتديت إلى أن أصل المشكل مرتبط بغيبوبتي..ثم قلت: يا لسذاجتي!..لماذا لم أفكر من قبل، في أن الأمر لا يعدو كونه كابوسا؟..وما علي إلا أن أقرص ذاتي، فإن أنا أحسست بالألم، فذلك يعني أنني أحلم وسأستيقظ وينتهي كل شيء..
فعلت، لكني لم أر نفسي أقوم بفعل الاستيقاظ، أو أن شكلي قد تغير، لكني لم أفقد الأمل وقلت أنه يلزمني عنف أشد ..هجس لي خاطر وأنا أهم بلطم وجهي بقوة أكبر: ماذا سيغير من الأمر حتى وإن أنا أحسست نفسي أستيقظ، فمن سيثبت لي أنه ليس حلما من داخل حلم، ألا يمكن أن نحلم بأننا نستيقظ..؟