18 ديسمبر، 2024 5:48 م

ألا يستحق أبوعمار شيئا من الاعتذار؟

ألا يستحق أبوعمار شيئا من الاعتذار؟

ما إن انتقلت أرض الهجرة من دمشق إلى الدوحة حتى عادوا إلى نقطة الصفر، لينقلبوا على أعقابهم، فيقبلون في الأخير بنفس الخط الأحمر الأول، خط الرجعة الأخير الذي من أجله قضى أبوعمار نحبه.

من يذكر وصيته الأخيرة؟ من يذكر صيحته الكبيرة؟ من يذكر صرخته الشهيرة؟ من يذكر العبارة الأخيرة التي أطلقها القائد الفلسطيني الشهيد ياسر عرفات – وهو الذي يعتبره المعتبرون بحق أحد آخر كبار قادة حركات التحرّر- يوم قال بلسان فلسطيني مبين “يريدوني إما أسيرا، وإما قتيلا، وإما طريدا. لا، أنا أقول لهم شهيدا، شهيدا، شهيدا، شهيدا؟”.

من يذكر تلك الصيحة المدويّة التي تردّد صداها في مختلف الآفاق والأرجاء؟ فقد كانت صيحة صبر صادحة، كانت شهادة شهامة صادقة، كانت لحظة قسم الولاء الأخير للقضية المغدورة، قبل أن يطالها غبار الإهمال تحت وقع النّقع الذي أثاره المتنطعون، وقبل أن تقبرها حوافر المزايدين على القضية باسم القضية، المزايدين على الإسلام باسم الإسلام، المزايدين على كل شيء باسم لا شيء؟

في كل الأحوال، وفي آخر المآل، استمات أبوعمار استماتة الصديقين الصادقين مرابطا معتصما بمقره الرئاسي الرّئيسي برام الله، مطالبا بالعودة إلى خطوط الرابع من يونيو 1967، والتي تمثل “الشرعية الدولية” في أوضح تجلياتها الأخلاقية، وأصدق ممكناتها السياسية. واعتبر ذلك الأمر بمثابة خط أحمر لا نزول عنه ولا تراجع، إنه خط الرجعة الأخير في منتهى الشفافية والنزاهة والوضوح.

لكن إخوته المتحلقون حول أحلامه، المتربصون بصبره، المتنطعون عليه جهارا ونهارا، قد زايدوا على خطه الأحمر بسقف يبدأ بأول السماء وينتهي إلى ما فوق الإسراء. بل فوق ذلك، شتموه، وشيطنوه، وأهانوه، وخذلوه، وخوّنوه، وكفروه، وأضعفوه، وألّبوا عليه الملأ، كل الملأ، وأفقدوه الشّرعيّة أمام الجموع، فمات مخذولا مغدورا في الأخير، ثم سرعان ما أوشكت أن تنفض من حوله كل الذكريات.

نعتوه بأقدح النعوت، أطلقوا عليه أقبح الصفات، زعموا أنه تاجر سلام، وبائع للقضية بالتقسيط وبأبخس الأثمان، وصار خلفهم فلول اليسراويين والقومجيين والشعبويين ولجان المساندة في كل العواصم ذات الغالبية المسلمة، يهتفون بلا برهان، يشتمون بلا حسبان، ثم شرعوا يزعمون أمام الملأ الأعلى والملأ الأسفل على حد سواء، بأنهم إن منّ الله عليهم، ومكنهم في الأرض، فلن يتنازلوا عن مطلب تدمير دولة إسرائيل وإقامة فلسطين المسلمة فوق كل مدافن الأنبياء العبرانيين.

أولئك من دمّروا القضية باسم القضية، وأطفؤوا بريقها بلا مقابل. نصف قرن من الأوهام الواهنة التي نسجوها، ثم صاروا هم أنفسهم أسرى أوهامهم، نصف قرن من المزايدة على الأحلام الكبيرة بالأوهام الغابرة، ثم صاروا هم أنفسهم ضحايا أوهامهم، نصف قرن من المخابئ والملاجئ والأنفاق والصواريخ الدونكيشوتية العابرة عبر الفضائيات التهييجية، والعويل المثير لغرائز الغيرة والغضب والتشفي (خيبر خيبر يا يهود)، مقرونا بالتهييج الإعلامي غير المسبوق في التاريخ، وأخيرا ما إن انتقلت أرض الهجرة من دمشق إلى الدوحة حتى عادوا إلى نقطة الصفر، لينقلبوا على أعقابهم، فيقبلون في الأخير بنفس الخط الأحمر الأول، خط الرجعة الأخير الذي من أجله قضى أبوعمار نحبه، تخوم الرّابع من يونيو 1967 بالتمام. وفي كل الأحوال فإن الخط الأحمر لم تعد له نفس الحمرة التي كانت، كما لم يعد لخط الرجعة الأخير نفس الوضوح الذي كان.

ذلك أن عقارب الساعة لا تدور إلى الخلف مهما حاولنا، وأن الزمن لا يعود إلى الوراء مهما فعلنا، وأن الفرص الضائعة لا ترجع كما كانت على الإطلاق، بل في الأساس لا شيء يرجع كما كان. لكن، ثمّة فارق آخر في الأخير، هو الأهم. هذه المرّة ليس لأحد شرف أن يردد شهادة ياسر عرفات الأخيرة: “أنا أقول لهم، شهيدا، شهيدا، شهيدا”.

ليس لأحد شرف ولا شهامة أن يردد شهادة عظيمة لرجل عاش عظيما ومات عظيما، رجل قضى نحبه على تخوم خطوط الرابع من يونيو 1967، خط الرجعة الأخير للأرض والقضية والمشروعية الدولية، رجل رابط وثابر إلى أن ترجّل، فوُوري جثمانه الثرى بحصنه الأخير في أرض الثغور، وفي انتظار وصيته الأخيرة، أن يعاد دفنه يوما ما في مدينة القدس.

هكذا عاش وهكذا مات قائد تحرّري اتهموه بالعلمانية بعد أن صوّروا للناس العلمانية كأنها عمالة، وقد كان الرجل أصدقهم إيمانا، وأكثرهم وفاء للإرث الرّوحي وللقضية.. عاش مرابطا، ومات مرابطا، ودُفن مرابطاً، منتظرا أن يعانق بجثمانه ثرى القدس في يوم من الأيام. أفلا يستحقّ أبوعمار شيئاً من الاعتذار؟ ألاَ يستحق أبوعمار كل الاعتذار؟
نقلا عن العرب