-1-
من أهم الفوائد التي تثري مُطالعي كتب التاريخ وُقُفوهُم على ألوانٍ من الحيل والمكائد، التي يمارسها الحكّام الطغاة، الذين لن تفارقهم مخاوفهم على كراسيهم لحظةً من الزمن ، والذين لايتورعون عن الفتك بأقرب الناس اليهم ، متى ما ساورتهم الشكوك الخبيثة فيهم ..!!
-2-
وإنّ الصفحات السوداء، من مكائد وأحابيل السلاطين الجائرين ، هي الجذر التاريخي لكّل ما يقارفه ورثتُهم من الحكّام المعاصرين …
-3-
ومعظم القشريين من الكُتّاب المعاصرين، حتى اولئك الذين يزعمون أنهم من ذوي الحصافة والثقافة – يتهيبون ذِكْرَ الحقيقة ، فتراهم مفتونين بالطواغيت من أمثال المنصور العباسي ، وربما نظروا اليه بتقديس .
مع انه سفاّك للدماء من طراز عجيب، وصاحب خِطط نكراء ، وحِيَلٍ وأحابيل مستهجنة، لم يكن يتورع عنها إزاء مَنْ يظن أنهم لايصطّفون معه ومَنّ يتهمهم بالعمل للاطاحة به ..!!
-4-
ان الراسب التاريخي هو الذي أعمى عيون هذه الثلة من الكُتاّب، فلقد انطلت عليهم حِيَلُ التشدق المزعوم بأهداب الدين ، والحرص على مصالح المسلمين ،والظهور بمظهر الناسكين المتعبدين …
ومن الواضح أنّ الحكم على انسان معيّن، لا ينطلق من ادعاءاته وما يُحيط به نفسه من مظاهر خادعة ، وانما ينطلق من التدقيق في مساراته، وممارساته، ومواقفه، ومقدار تطابقها مع الموازين الشرعية والانسانية والاخلاقية والسياسية .
لاينفعُ الجزّار أن يحج بيت الله الحرام في كلّ عام …
ولا ينفعه أن يؤدي النوافل بعد الفرائض …
فما قيمة الصلاة ان لم تكن رادعة عن الفحشاء والمنكر ؟
وأي مُنكر أكبر من إراقة الدماء ، وازهاق الأرواح، ومصادرة الحريات والحقوق ، والضحك على ذقون الناس …؟!
-5-
واذا كنتَ سمعتَ بأخبار المسارعة الى قَتْل من يأمُرُهم الحكّام الظالمون المعاصرون، باغتيال هذا المعارِض لهم أو ذاك إخفاءً للأمر ، فانّ هذا هو دَيْدَنُ اسلافِهِم ، فهم ورثة الطواغيت الجبارين ….
واليك الآن مثالاً واحداً مما ذكرَتْهُ كتبُ التاريخ عن المنصور العباسيّ .
يحدثنا عيسى بن موسى – والي الكوفة أيام المنصور – :
أنَّ المنصور استدعاه سِرّاً في جوف الليل ، ودفع اليه عّمه (عبد الله بن علي) ثم قال له :
” إنّ هذا أراد أنْ يزيل النعمة عني وعنك ،
وأنت وليُّ عهدي بعد (المهدي) ،
والخلافة صائرة اليك ،
فخذه اليك واقتُلْه ،
وإياك أنْ تحول وتضعف فتنقض عليّ أمري الذي دبّرت “
ثم مضى للحجّ ..!!
وهنا نلاحظ :
1 – اختار (المنصور) ان تكون الصفقة سرّيه ، بدليل استدعائه (عيسى بن موسى) ليلاً بعد ان هجعت العيوم ونام الناس ….
2 – إغراء (عيسى بن موسى) بولاية العهد ، إنْ نجح في أداء ما أَوكلَ اليه ..!!
3 – إشعار (عيسى بن موسى) بان تنفيذ ما أوكل اليه ، يعود عليه بالنفع ، لانَّ (عبد الله بن علي) أراد ان يزيل عنه النعمة ..!!
4 – وكل ذلك تزامن مع بدء رحلته الى الديار المقدّسة لأداء فريضة الحج ..!!
وهكذا تكون المظاهر العبادية الزائفة ، ذلك أنَّ فريضة الحج لَنْ تبدأ باصدار الأوامر بقتل الأرحام والأعمام ..!!
-7-
ولقد أطلع عيسى بن موسى كاتبه (يونس بن فروة) على الأمر
وقال له :
( هذا الرجل – ويعني به المنصور – دفع اليّ عَمَّهُ -، وأمرني بكذا وكذا، فقال :
أراد أنْ يقتلك …
انه أمرك بقَتْله سرّاً ، ثم يدّعي عليك علانيةً ، ثم يقيدُك به ، قال :
فما الرأي ؟
قال :
أنْ تستره في منزلك ، ولا يطلع عليه أحد ، فان طلبه منك علانيةً دفعتَه اليه علانيةً ، ولا تدفعه اليه سرّا )
ولقد كان (يونس بن فروة) ناصحاً
وهذه هي احدى ثمرات الاستشارة …
وبالفعل ، فقد أخذ (عيسى بن موسى) برأي كاتِبِه .
-8-
وحين عاد المنصور من الحج ، دسّ مَنْ يحرّك أعمامَهُ على مطالبته بالافراج عن عمّه عبد الله بن علي .
وهكذا كان …
لقد جاؤوا وكلّموه … وذكروا له الرحم
فقال :
” نعم
عليّ بعيسى بن موسى ، فأتاه
قال :
اني دفعتُ اليك عمي وعمك (عبد الله بن علي) قبل خروجي الى الحج ، وأمرتُك ان يكون في منزلك
قال :
قد فعلتُ ذلك
قال :
فقد كلمنيّ فيه عمومتُك ، فرأيتُ الصفح عنه ، وتخلية سبيلِهِ ،
فأتنا به .
قال :
ألم تأمرني بقتله ؟
قال :
لا ، وانما أمرتك بحبسه عندك
قال :
قد أمرتني بقتله
قال المنصور :
كذبتَ
ثم قال لعمومته :
ان هذا قد أقرّ لكم بقتل أخيكم ، وأدعى أني أمرتُه بذلك وقد كذب .
قالوا :
فادفعه الينا ..!!
أرأيت كيف يكون الكذب والمكر ؟!
-9-
وقام أحد أعمامِهِ ،
وشهر سَيْفَهُ ، وتقدّم الى (عيس بن موسى) ليضربه ،
-من باب القصاص باعتباره قاتلاً لعبد الله بن علي –
فقال له عيسى :
أفاعلٌ أنت ؟
قال :
اي والله ، قال :
فلا تعجل ، فان عمي حيّ، وطلب ان يُرّد الى المنصور ، وحين جيء به اليه قال :
” انما أردت أنْ تقتله فتقتلني ،
هذا عمّك حي .. فان أمرتني بدفعه اليك دفعتُه
قال :
ائتنا ، فأتاه به .
-10-
وحتى بعد انكشاف الفضيحة ، لم يسلم (عبد الله بن علي) عمّ المنصور منه ..!!
جعله في بيت أساسه مِلْحٌ ، وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه فمات…
هذه هي قصة احدى الجرائم التي مارسها (المنصور) مع أقرب الناس اليه ، فما بالك بما مارسه مع عامة الناس ؟!
مات المنصور ، ولكنّ التاريخ مازال يذكر جرائمه ومظالمه …
وهنا موطن العبرة
السعيد من الحكّام من يفد على الله وهو برئ من المظالم والجرائم ..، والاّ فان النار بانتظاره ، هذا اذا سلم من يد المنتفضين الأحرار من مواطنيه …