مما لا شك فيه أن لأزمة الدين الأمريكي العديد من التأثيرات السلبية علي الاقتصاد العالمي، وذلك لحجم الاقتصاد الأمريكي في السوق، ولسيطرته علي بعض المؤسسات المالية العالمية، والأهم من ذلك تأثر الدولار بتلك الأزمة وهو العملة المعتمدة في المعاملات التجارية وفي الاستثمارات خاصة في الدول النامية.
لذلك، فإن تأثير الدين الأمريكي علي تباطؤ نشاط الاقتصاد العالمي سيؤثر تباعاً علي جميع دول العالم ، وتعد الدول الدائنة للولايات المتحدة هي الأكثر تأثرا وعلي رأسهم الصين واليابان، ودول مجلس التعاون الخليجي.نشأت الأزمة المالية العالمية من أزمة الائتمان وعصفت بالبنوك والمصارف الأجنبية (البنوك الأمريكية تحديدا)، فقد نشأت أزمة المديونية الأوروبية من الديون السيادية، التي أفزعت منطقة اليورو، وأثرت علي الكثير من البنوك الأوروبية. وتتجه الأنظار حالياً إلي تلك الأزمة –أزمة الديون السيادية– وتتزايد المخاوف من تفاقمها وتداعياتها علي تباطؤ الاقتصاد العالمي، وتخفيض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة الأمريكية، ومخاطر الانكماش الائتماني، والعبء الاقتصادي. ويرجع هذا النمو الهائل في حجم الدين خلال تلك الفترة إلي أحداث 11 سبتمبر، والسياسات التي اتخذتها الولايات المتحدة بعدها، سواء سياستها الداخلية أو سياستها الخارجية. فقد كان للسياسة الأمريكية في عصر الرئيس بوش الابن، وشن الحرب علي العراق وأفغانستان، أثر بالغ في تزايد العجز في الميزانية نظرا لتزايد الانفاق علي ميزانية الحرب، وزيادة حجم الأنفاق العسكري. كذلك للسياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة للخروج من الأزمة المالية العالمية، وضخها للمزيد من الأموال، وبرامج التحفيز المالية والنقدية التي اتخذتها للخروج من الأزمة، مما ضاعف من عجز ميزانيتها. أيضا كان لزلزال اليابان، والربيع العربي أثر في اتخاذ الحكومة لإجراءات لوضع ميزانية لمواجهة الكوارث، وهو يعد إجراء لا مفر منه. كما أن تحمل الحكومة الأمريكية لتسديد تكاليف الرعاية الطبية الكاملة، وتخفيض الضرائب، والإجراءات التي اتخذتها لمكافحة التضخم أثر بالغ الأهمية في زيادة العجز في ميزانيتها وتزايد حجم الديون. ومن هنا، فإن تعافي ونمو الاقتصاد العالمي متوقف علي مدي قدرة السياسات الأوروبية والأمريكية من احتواء أزمة الديون، وقدرتها علي التوازن بين دعم الاقتصاد وضبط الأوضاع المالية العامة، تجنباً لحدوث تقلبات جديدة في الأسواق المالية العالمية.
فقد عانت الأسواق العالمية من موجة كبيرة
من البيع الاضطراري للأصول الخطرة، مما لفت الأنظار إلي صعوبة حل المشكلات الاقتصادية الهيكلية التي تواجه الاقتصاديات المتقدمة المتضررة من الأزمات، فالضغوط التضخمية تزداد حدة. كما تصاعدت الاضطرابات المالية التي تحيط بهذه الدول، بما استدعى التدخل السريع من حكوماتها، حيث لجأت غالبيتها إلى تقوية سياستها لاتخاذ قرارات فعالة لمساعدة اقتصادياتها، حتى تتمكن من إعادة التوازن بها.
كما نبعت المخاطر من خلل القطاع المالي،
ففي منطقة اليورو هناك العديد من الإجراءات التي يجب اتخاذها لتصحيح الأوضاع المالية العامة، وإصلاح خلل ميزان المدفوعات، وتخفيف الضغوط علي السندات السيادية، والفروق بين أسعار الفائدة المصرفية الدائنة والمدينة. كما ينبغي أن تظل السياسات النقدية في الاقتصاديات الصاعدة تيسيرية، وينبغي الحذر من ارتفاع في التضخم الأساسي وتلاشي حدوث تراخي اقتصادي.
بدأت تلك الأزمة في منظقة اليورو في نهاية عام 2009 وبداية عام 2010، حينما تراكم الدين الحكومي في ثلاث بلدان من منطقة اليورو، هي اليونان وايرلندا والبرتغال، والتي ما لبثت أن امتدت إلي عدة دول أوروبية أخري، وأصبحت خطراً يهدد بالانتشار في ايطاليا وأسبانيا، وهما يحتلان المرتبة الثالثة والرابعة علي التوالي في اقتصاد منطقة اليورو. تتمثل الديون السيادية في سندات تقوم الحكومة بإصدارها بعملة أجنبية وطرحها للبيع لمستثمرين من خارج الدولة، أي أنه شكل من أشكال الاقتراض. ولهذا فعلى الحكومة أن تكون قادرة علي الوفاء بديونها المقومة في شكل سندات بالعملة الأجنبية، وأن يكون لديها هيكل تدفقات نقدية من النقد الأجنبي والذي يسمح لها بذلك، حرصاً منها علي ثقتها لدي المستثمرين الأجانب، وكذلك علي تصنيفها الائتماني في سوق الإقراض. ولكن ما هي النتيجة لو عجزت الحكومة عن الوفاء بمديونيتها تجاه الديون السيادية ؟ تنشأ هنا أزمة مالية خطيرة وهي أزمة الديون السيادية، كما هو الحال في أزمة الديون السيادية الأوروبية، التي جذبت الانتباه في شتي أنحاء العالم، والتي أثارت القلاقل من تداعياتها علي الاقتصاد العالمي. ويتجه حاليا كل من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي.
وجدير بالإشارة أن الأزمة المالية العالمية كان لها تداعياتها السلبية الخطيرة علي الاقتصاد اليوناني، لاعتماده علي القطاع الخدمي والسياحي، والتي كانت من القطاعات الشديدة التأثر بهذه الأزمة، وكان لتأثر الحركة السياحية بها أثر بالغ في نقص حصيلتها من النقد الأجنبي، باعتبار السياحة أهم القطاعات توليداً للعملات الأجنبية. ويمكن القول أنه يفضل لليونان لتجاوز تلك الأزمة القيام بزيادة حجم الضرائب، وإنعاش النمو، وتحفيز السياحة. أيضا تشير العديد من التقارير الدولية إلى أنه يوجد هناك حل آخر ممكن أن يكون فعالا ، يتمثل في استغناء اليونان عن اليورو كعملة لها، والاعتماد علي عملتها المحلية، وهذا بلا شك سيسهم في تخفيض قيمة عملة اليورو، مما يساهم في خفض فائدة الائتمان، والاعتماد علي القروض المباشرة.
والأمر الملفت للانتباه هو انخفاض معدل
النمو الهائل الذي ضرب اقتصاديات الدول الأوربية في عام 2009م، لأنها كانت من أشد الدول تأثراً بالأزمة المالية لارتباط بنوكها بالبنوك والمصارف الأجنبية، مما أدى إلي انخفاض معدلات النمو بها ، غير أنها استطاعت التعافي وشهدت زخما وارتفعت معدلات النمو الاقتصادي بها ، وذلك لاتجاه البنوك لزيادة رؤوس الأموال والسيولة الاحتياطية، مما خلق انتعاشا في اقتصاديات الدول الأوربية، ونموا في ناتجها المحلي الإجمالي.
ادت الأزمة المالية إلي تخفيض التصنيف الائتماني لبعض الدول الأوربية بالطبع، وهو مؤشر خطير، سوف يحد من فرص هذه الدول في جذب الاستثمارات الضرورية إليها، ومن ثم سيحد من قدرتها على الحصول علي القروض المختلفة، كما سيؤثر علي سعر الفائدة لديونها الائتمانية. انخفاض حركة الواردات إلي دول منطقة اليورو، نتيجة تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، مما يشكل خطرا بالغا علي الدول المصدرة، حيث ستواجه ضعفا في معدلات الطلب على منتجاتها، وقد تمتد هذه التأثيرات إلى المنتجين الصناعيين، ومن ثم قد تترك تأثيرات سلبية علي البنوك والمصارف المقرضة لهم.
نظراً لما تشهده الولايات المتحدة من أزمة دين، وتفاقم العجز في ميزان المدفوعات ، كذلك نتيجة التباطؤ الملموس في النمو الاقتصادي بصورة عامة والنمو الصناعي بصورة خاصة، وضعف القدرة التنافسية للولايات المتحدة أمام الدول الصناعية الأخرى، وتراجع تسويق منتجاتها عالميا، فقد استمرت اتجاهات الدولار نحو التراجع. وبالنسبة لسعر اليورو، فنظراً لأزمة الديون السيادية في منطقة اليورو، فقد شهد انخفاضا ملحوظا. ويمتد الحال إلي اليابان، التي تأثرت بشدة من الزلزال وموجة تسونامي، مما أدى إلي انخفاض نموها الاقتصادي، وأثر سلبا علي سعر تداول عملتها. الصين أكبر الدول الدائنة للولايات المتحدة الأمريكية، ولأنها من أكبر الدول من حيث حجم احتياطيات النقد، فإن خطرها سيكون بالغ في حالة عدم تمكن الولايات المتحدة من سداد ديونها لها.
الأمر الذي من المحتمل أن يؤثر علي عائداتها الاستثمارية من الخارج، والأكثر من ذلك أن الصين -صاحبة أكبر قوة تصديرية في العالم- من المتوقع أن تواجه خطر الانكماش الاقتصادي، لأن الركود الذي أصاب العالم في عند نشوب الأزمة سيقلل من حجم الطلب علي البضائع الصينية، مما سيؤثر علي الحصيلة النقدية للبنوك والمصارف المقرضة للمصنعين، نظراً لتعثرهم في سداد قروضهم لعدم رواج بضاعتهم. استطاعت الدول الأسيوية أن تلفت إليها أنظار العالم نظراً لما أحرزته من تقدم ونمو اقتصادي فاق التوقعات، ومن أهم تلك الدول اليابان، الصين، سنغافورة، كوريا الجنوبية، تايوان وهونج كونج. ومن أهم ما يميز تلك الدول هو دورها البارز في المبادلات التجارية العالمية. كما أنها تتميز بقوة التبادل والتعاون الاقتصادي فيما بينها، ولذلك عندما تواجه إحدى هذه الدول أزمة ما، فإنه سرعان ما تمتد آثارها علي الدول المجاورة داخل نطاق الإقليم الأسيوي. وتعتبر اليابان والصين عملاقي القوة الاقتصادية في آسيا، ولقد نجحتا في إرساء علاقات سليمة بينهما تقوم علي أساس الاحترام المتبادل وحماية المصالح المشتركة بينهما. وعلي الرغم من توافر العديد من مصادر الطاقة والثروات المعدنية بالصين، إلا أن إنتاجها المحلي غير كافي لسد احتياجاتها، ولهذا فهي تعتمد بصورة شبه رئيسية علي الاستيراد من الخارج، ومما يثير الدهشة هو ارتفاع أسعار المواد الخام ومصادر الطاقة، وفي الوقت نفسه يتميز الإنتاج الصيني برخص الأسعار. يعاني الاقتصاد الصيني من بعض أوجه الخلل، ولهذا فإن هناك اتجاهات ومخاوف بشأن ذلك ، نظرا لاتساع حجم النشاط الاقتصادي بها، علاوة علي إنفاقه الحكومي علي البنية التحتية. علاوة علي سياسة الصين في الإقراض للدول الأخرى، مما قد يضعها في مأزق إذا لم تستطع تحصيل تلك القروض، بالاضافة للتفاوت الهائل في مستويات المعيشة، وارتفاع أعداد المواطنين الصينيين الذين يقعون تحت خط الفقر، بالرغم من ازدهار الاقتصاد الصيني. ولقد واجه الاقتصاد الصيني في عام 2011م عدة اضطرابات، فكان لأزمة اليابان أثرها علي الاقتصاد الصيني، فمن المعروف أن اليابان هي ثاني شريك للصين، وهناك آلاف من المصانع الصينية التي تمد اليابان بالصناعات النسيجية، وأجزاء الأجهزة الكهربائية، وبعد وقوع الأزمة اضطرت تلك المصانع إلي تخفيض عملياتها الإنتاجية، لانخفاض الطلب. ومن جانب آخر، فإن اليابان تعد أكبر مورد للصين ، حيث تعتمد عليها الصين في استيراد المواد الأولية، إلا إن الأزمة النووية وانقطاع التيار الكهربائي المخطط لها يشكلان حجر عثرة أمام تعافي الأنشطة الصناعية سريعا في اليابان، مما سيمتد آثاره علي ضعف وانخفاض العمليات الإنتاجية في الصين. ومن المتوقع أن تتفاقم مخاطر تعرض الصين للتضخم على المدى المتوسط. إن أي تحسّن ستشهده الصين خلال هذه الفترة سيكون مؤقتاً وذلك بسبب زيادة أسعار المنتجات الغذائية. ومن المتوقع أن تستمر التحديات المتعلقة بالتضخم الهيكلي في تهديد نمو الصين على المدى المتوسط، ولا شك أن أي انخفاض في نمو الاقتصاد الصيني سيؤثر علي الاقتصاد العالمي. وفي شرق آسيا، يأتي تضخم أسعار الغذاء نتيجة ارتفاع ملحوظ عن المستوى المتوسط في نمو الائتمان بمعظم البلدان، وهو ما يسهم في ازدياد الضغوط التضخمية بشكل عام. وربما تكون السياسات النقدية المشددة خياراً مجدياً للقضاء على ذلك النمو غير المرغوب. وجدير بالذكر أن الدول المستوردة الصافية للغذاء والوقود وغيرهما من السلع الأساسية هي الأشد تأثراً ومعاناة، ولاسيما تلك التي تعاني من عجز كبير في حساب المعاملات الجارية أو تدني غطاء الاحتياطيات أو كليهما. أما بالنسبة لمؤشرات البورصات العالمية، فقد تأثرت بالركود الاقتصادي الذي شهده العالم خلال الآونة الأخيرة، حيث اتجه العديد من المستثمرين إلي بيع الأسهم التي في حوزتهم، خوفا من حدوث المزيد من التدهورات، مما أدي إلي انخفاض مؤشرات البورصة العالمية، وبالرغم من أن هذا الانخفاض من المفترض أن يجذب المستثمرين لشراء الأسهم، إلا إنه علي العكس، فقد بدى الاستثمار في البورصات العالمية أشبه بالمجازفة، فقد أثر سلبا إلى انسحاب وخروج الكثير من السيولة على المستوى العالمية .