ترتكب حاليا اعتداءات جسيمة تقع على مصالح جوهرية للمجتمع الدولي يهتم القانون الدولي الجنائي بحمايتها ، إذ تشكل في الوقت نفسه مساسا خطيرا بسّلم البشرية وأمنها ، وهو ما يعرف بالجريمة الدولية التي تعتبر إنتهاكا صارخا لحقوق الإنسان بمختلف صورها وأشكالها. وقد اختلفت التعريفات القانونية للجريمة الدولية، ولو اختلفت في مفرداتها إلا أنها تتفق في معناها باعتبارها عملا غير مشروع مخالف لأحكام القانون الدولي الجنائي. فقد عرفت على أنها سلوك يمثل عدوانا على مصلحة أساسية للمجتمع الدولي تتمتع بحماية النظام القانوني الدولي من خلال قواعد القانون الدولي الجنائي، أو أنها صورة السلوك المضادة للقواعد الدولية التي يحميها القانون الدولي . كما عرفت على أنها الفعل الذي يرتكب إخلالا بقواعد القانون الدولي ويكون ضارا بالمصالح التي يحميها ذلك القانون مع الإعتراف لهذا الفعل بصفة الجريمة واستحقاق فاعله للعقاب. لهذا كان من الضروري أن تتم متابعة مرتكبي هذه الجرائم الدولية التي تبقى محافظة على الوصف الغير مشروع مادام منصوص عليه في قواعد قانونية كإستثناء من المبدأ العام القاضي باعتبار أن أي سلوك يكون مشروعا بحسب الأصل ، أو لاقترانه بسبب من الأسباب التي ترفع عنه وصف عدم المشروعية ، على أساس ضرورة خضوع السلوك لنص جنائي يجرمه مع انتفاء أي سبب من أسباب الإباحة باعتبار أن مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من المبادئ التي يتضمنها القانون الدولي الجنائي ، وبالتالي محاكمة كل من يقترف هذه الأفعال وتسليط العقاب عليهم ، لتفادي وقوع هذه الجرائم مستقبلا هذا من جهة، ومن جهة أخرى لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتعزيز السّلم والأمن الدوليين . هدف القانون الدولي الجنائي هو حماية المصالح الأساسية للمجتمع الدولي عن طريق تجريم الأفعال التي تصيب بالضرر أو تعرض للخطر مصلحة من تلك المصالح وتقرير الجزاءات الرادعة لمن يرتكب فعلا من هذه الأفعال وبالتالي الوقاية من الإجرام ، لكنه لا يسبغ حمايته الجنائية على كافة المصالح الدولية و إنما فقط على تلك المصالح التي يؤدي العدوان عليها الإخلال بالدعائم الأساسية التي ينهض عليها بنيان المجتمع الدولي ويهدد جهود تنظيم العلاقات الدولية التي تقوم على أساس الود والتفاهم بين الدول. ان أسباب الإباحة في القانون الدولي الجنائي وليس في القانون الجنائي الدولي ، رغم وجود العديد من فقهاء القانون الدولي يعتبرون أن كلا من المصطلحين له نفس المعنى ، لكن الحقيقة أنه يوجد فرق بينهما ، فالقانون الجنائي الدولي يعتبر قانونا وطنيا الجريمة أو مكان وقوعها ، أما القانون الدولي الجنائي فهو يعبر عن تلك المنطقة التي لا تستطيع القوانين الداخلية الوصول إليها ، لهذا يعرف على أنه مجموعة القواعد القانونية المعترف بها في العلاقات الدولية التي يكون الغرض منها حماية النظام الإجتماعي الدولي وذلك بالمعاقبة على الأفعال التي تتضمن اعتداء عليه . تتعلق أسباب الإباحة بالركن الشرعي للجريمة الدولية لأنها تزيل الوصف الجرمي عن الفعل المجرم وتجريده من صفته غير المشروعة ، فيصبح حكمه حكم الأفعال المشروعة وبالنتيجة انتفاء الركن الشرعي للجريمة الدولية تبعا لذلك ، وهي بهذا تختلف عن موانع المسؤولية الجنائية التي تنفي التمييز أو حرية الإختيار عند الشخص الذي صدرت عنه ماديات الجريمة مما يؤدي إلى عدم المساءلة الجنائية عن الأفعال التي ارتكبها. ان أسباب الإباحة في القانون الدولي الجنائي ، وإن وجدت فهل هي نفس الأسباب المعروفة في القانون الجنائي الداخلي ، وما رأي القضاء الدولي الجنائي من فرضية تبرير أعمال مجرمة معاقب عليها دوليا بالإعتماد على أسباب الإباحة؟، من المعلوم أن القضاء الدولي الجنائي مكون من مختلف المحاكم الدولية الجنائية سواء التي زالت ولايتها ونعني بها كل من المحكمة الدولية الجنائية لنورمبرغ عسكرية دولية لمحاكمة مجرمي الحرب ، والمحكمة الدولية الجنائية لطوكيو أو التي لا تزال قائمة فهي المحكمة الدولية الجنائية ليوغسلافيا سابقا والمحكمة الدولية الجنائية لرواندا والمحكمة الدولية الجنائية الدائمة(1) . فالهدف الذي نريده يتمثل في تسليط الضوء على أهم نقطة في القانون الدولي الجنائي الخاصة بالجريمة الدولية والأسباب التي تبيحها مقارنة مع ماهو متعارف عليه في القانون الجنائي الداخلي ، لأن أسباب الإباحة ذات طبيعة موضوعية يستفيد منها كل من قام أو شارك أو ساهم بارتكاب الفعل المجرم بحسب الأصل. ويسري هذا الموضوع على كل أشخاص القانون الدولي الجنائي خاصة الفرد باعتباره شخصا من أشخاصه، بعدما تم الإعتراف بمسؤوليته الجنائية الفردية في كل المحاكم الدولية الجنائية. الدفاع الشرعي كسبب إباحة في القانون الدولي الجنائي:
أسباب الإباحة هي تلك الأسباب التي تمس الركن الشرعي للجريمة الدولية ، فتجرده من صفته غير المشروعة فيصبح حكمه حكم الأفعال المشروعة ، وهي عديدة في القانون الدولي الجنائي، ارتأينا أولا أن نبدأ بالحديث عن أول الأسباب المتفق عليها في القانون الدولي الجنائي وهو الدفاع الشرعي، لمدى أهميته في المجتمع الدولي بصفة عامة والقانون الدولي الجنائي بصفة خاصة. من المبادئ المستقر عليها في القانون أّنه لا يجوز للشخص أن يقتص لنفسه بنفسه، فكل القوانين الجنائية ترفض فكرة الإنتقام حتى لا يسود المجتمع الفوضى وعدم الأمن والإستقرار، إذا ما أصبح كل من يتعرض للإعتداء يدفعه بنفسه، بل يجب رفع الأمر إلى السلطة المختصة لدفع الإعتداء عنه و الإقتصاص من الجاني ، إلا أن الدفاع الشرعي إستثناء من الأصل العام ، إذ يجوز لمن وقع عليه الإعتداء أن يدفعه بنفسه دون الحاجة لّلجوء إلى السلطات المختصة. فالدفاع الشرعي، هو الحق باستعمال القوة اللازمة الذي يقرره القانون لمصلحة المدافع لرد الإعتداء الحال على نفسه أو ماله أو على نفس الغير أو ماله، باعتباره حق عام في مواجهة كل الناس يثبت لكل إنسان يهدده خطر حال غير مشروع ، أما على نفسه أو على ماله، فيكون له ابتداءا من هذا المنطلق درء الخطر للحيلولة من الإستمرار في تفاقمه. فهو سبب للإباحة في القانون الجنائي الداخلي، لأن هدفه مجرد الوقاية وليس تخويل المعتدى عليه سلطة توقيع العقاب على المعتدي أو الإنتقام منه. لم يكن المجتمع الدولي قبل ظهور منظمة الأمم المتحدة مجتمعا منظما قانونيا مما يسمح لنا بالقول أن الدفاع الشرعي لم يكن يشكل مفهوما حقيقيا كما هو عليه الآن إذ اعتبر كمفهوم أخلاقي فقط تجسد هذا في الأعراف الدولية ، وتجلى أهم ظهور له في حادثتين دوليتين مشهورتين هما حادثة كارولين( 2) ، و حادثة فرجينيا بين أمريكا وإسبانيا أي ان هاتين الحادثتين رسخت فكرة الدفاع الشرعي خاصة من قبل إسبانيا التي اعتمدت عليه في دفعها اتجاه أمريكا( 3). الدفاع الشرعي معترف به من قبل العرف الدولي وإن ترك هذا الأخير سلطة تقديرية واسعة للدول في اتخاذ التدابير التي تراها مناسبة لحماية مصالحها الجوهرية لمجرد وجود ضرر يهدد هذه الأخيرة ، وبقيت صعوبة التفريق بين استخدام القوة في الحالة التي تكون مشروعة وفي الحالة التي يكون استخدامها غير مشروع، إلى أن بدأ التفكير في صبها في شكل اتفاقيات دولية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، فعصبة الأمم مثلا اعتبرت الحرب عملا غير مشروع واستثنت من ذلك حق الدفاع الشرعي، أي الحرب الدفاعية إلا أنها لم تفلح في منع الحرب نهائيا لوجود عدة أسباب واعتبارات سياسية و إقتصادية. ثم بروتوكول جنيف لسنة 1924 ، إذ نص صراحة على إلتزام الدول الأطراف بعدم اّللجوء إلى الحرب إلا في حالتين فقط هما، الدفاع الشرعي أو تنفيذ الأفعال التي يأمر بها مجلس أو جمعية عصبة الأمم ، وتكون هذه الأفعال متفقة ونصوص العهد من جهة ونصوص البروتوكول الحالي من جهة أخرى، إلا أن هذا البروتوكول لم يدخل حيز التنفيذ ثم جاءت اتفاقيات لوكارنو 1925 أهمها اتفاق الراين، و التي نصت على حق الدفاع الشرعي، كما نص قرار الإتحاد البرلماني الدولي 1928 أيضا في المادة السابعة منه على أن للدولة المعتدى عليها بعدوان مسّلح حق الدفاع الشرعي عن نفسها ، ثم جاء ميثاق ” براين- كيلوج” أو ما يسمى باتفاقية باريس في أب 1928 والذي أدان الحرب وحرمها كوسيلة لحل النزاعات الدولية وامتناعها كوسيلة للسياسة الدولية في علاقتهم المتبادلة، إلا أن هذا الميثاق لم ينص على حق الدفاع الشرعي بصراحة بل يمكن فقط استنتاجه من خلال تحفظ “كيلوج” بخصوص تطبيق المادة الأولى بقوله:
لا نجد في المشروع الأمريكي أي قيد أو منع على الحرب التي تتخذ طبقا لحق الدفاع الشرعي حيث يعتبر هذا الحق مرتبطا بسيادة كل الدول وموجودا بصورة ضمنية في كل المعاهدات وتكون كل دولة حرة في أية لحظة بعدم التقيد بنصوص المعاهدات لتدافع عن إقليمها إزاء أي هجوم أو غزو وهي وحدها التي تقرر بدون معقب عليها ما إذا كانت الظروف تقتضي الّلجوء إلى الحرب طبقا للدفاع الشرعي.
هذه هي لمحة تاريخية عن الدفاع الشرعي قبل ظهور منظمة الأمم المتحدة ، فإنه ينبغي تسليط الضوء على تعريف الدفاع الشرعي بعد ظهور هذه المنظمة العالمية. لم يكن هناك أي تحديد لاستعمال القوة لانعدام معيار يحدد وينظم الدفاع الشرعي، إلا أن مفهومه تطور في القانون الدولي العام بشكل موازي مع تطور مفهوم منع وحظر الّلجوء للقوة العسكرية. فالدفاع الشرعي وإن كان معروفا قبل ظهور ميثاق الأمم المتحدة إلا أنه لم يتبوأ مكانته كإستثناء من الأصل العام وهو عدم الّلجوء للقوة إلا من خلال ميثاق الأمم المتحدة ، إذ كانت الحرب العالمية الثانية النقطة الفاصلة لإنتهاء حقبة من الزمن و بدأ حقبة أخرى بإنشاء منظمة الأمم المتحدة التي كان من أهم أهدافها السياسية السامية المحافظة على الأمن و السّلم الدوليين، تكرس هذا خاصة في الفصل السابع من ميثاقها، فكان لزاما أن نتساءل عن مكانة الدفاع الشرعي في ميثاق الأمم المتحدة ثم مكانته في القانون الدولي الجنائي.
اولا : في ميثاق الأمم المتحدة
بعد فشل عصبة الأمم في فرض السّلم والأمن الدوليين وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية التي كانت أكثر هولا من سابقتها بما خلفته من الدمار والخراب ، كانت بذلك من أهم الأسباب التي دفعت بعض زعماء العالم بالتفكير في إنشاء منظمة عالمية بديلة ألا وهي هيئة الأمم المتحدة ، حيث أنشأت في 22 أكتوبر 1945 وكان من أهدافها السامية حفظ السّلم والأمن الدوليين بتحريمها استعمال القوة والتهديد بها و اعتماد حل النزاعات بالطرق السلمية بالمادة 42 من ميثاقها التي أوردت عبارة “القوة” وهو تعبير أوسع و أشمل إذ يغطي جميع استعمالات القوة الممكنة الموجهة ضد الإستقلال السياسي والوحدة الترابية لدولة أخرى وكل أعمال العدوان والتهديد باستعمال الّقوة و المساس بسيادة دولة أخرى. إلا أّنه يوجد بالميثاق إستثناءات على مبدأ تحريم استعمال القوة، منها ما تم ذكره من خلال الفصل السابع ألا وهو نظام الدفاع الجماعي و الدفاع الشرعي عن النفس من خلال المادة51 لأن المبدأ الأساسي الذي يحكم العلاقات الدولية هو الإلتزام بحل النزاعات حلا سلميا وهذا ما ورد في المادة ( 33 ) منه، فالدفاع الشرعي يعتبر “حق طبيعي” اما أن يكون حقا فرديا أي دفاعا شرعيا فرديا، أو جماعيا يبيح استعمال القوة، رغم أن الدولة التي تمارسه عليها القيام بإجراءات معينة وارد ذكرها في المادة ( 51 ) نفسها ، والتي لم تجرد الدول الأعضاء في المنظمة من صلاحيتهم في ممارسة حق الدفاع الشرعي لكن يتمتع مجلس الأمن بسلطة استعمال تدابير القهر وتجميع العقوبات بما في ذلك استعمال القوة المسّلحة، ويجب على الدول الأعضاء أن تقوم بإبلاغ المجلس فورا عن التدابير المتخذة ، والعّلة في ذلك هو إثبات و إقرار حالة الدفاع والتمكن من التدخل إذا رأى أن المقتضيات تتطلب ذلك، فللدول الحق في الّلجوء لاستعمال الدفاع الشرعي من أجل الدفاع عن نفسها حتى باستعمالها القوة وإثارتها لحرب قبل تدخل مجلس الأمن ولكن دائما برقابة منه، فإذا ما عجز مجلس الأمن في حفظ السّلم والأمن الدوليين من ثم الوساطة،التحكم، والتسوية القضائة ، أما نص المادة الواحدة والخمسن( 51 ) فھو: لس في ھذا المثاق ما ضعف أو نقص من الحق الطببعي للدول فرادى أو جماعات في الدفاع عن أنفسھم إذا اعتدت قّوة مسلّحة على أحد أعضاء ھذه الھبئة وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللاّزمة لحفظ السلّم و الأمن الدولين . والتدابير التي اتخذھا الأعضاء استخداما لحق الدفاع الشرعي تبلغ إلى المجلس فورا ولا تؤثر تلك التدابير بأية حال فان للمجلس بمقتضى سلطته ومسؤوليته المستمدة من أحكام ھذا المثاق من الحق في أن يتخذ في أي وقت ما يراه ضروري لاتخاذه من الأعمال لحفظ السلم والأمن الدولي أو إعادته إلى نصابه. يكون من الصواب والعدالة الحقة أن يخول صاحب حق الدفاع الشرعي في أن يلجأ انفراديا إلى استعمال هذا الحق. تجدر الإشارة أن الآراء الفقهية حول المادة ( 51 ) من الميثاق قد اختلفت بين من يعتبرها منشئة لحق الدفاع الشرعي وبين من يعتبرها مقررة وكاشفة له فقط لا أكثر ولا أقل، فاما عن رأي الفريق الاول، فإنهم يعتبرون المادة ( 51 ) لا تنقص من حق الدفاع الشرعي الذي كان موجودا قبل نشوء الأمم المتحدة كمنظمة عالمية، وبالتالي فإنه بوقوع اعتداء من قبل دولة ما على حق جوهري لدولة أخرى يمكن للدولة التي وقع عليها الإعتداء أن تستعمل حقها في الدفاع الشرعي لردعه، اما رأي الفريق الثاني فيعتبرون أن قاعدة حق الدفاع الشرعي تفرض وجود إلتزام قانوني للدول الأعضاء باحترام وتطبيق هذه القاعدة والمادة ( 51 ) لا تنشأ حق الدفاع إلا في حالة وحيدة هي حالة وقوع عدوان مسّلح، بمفهوم المخالفة فإن أي تهديد أو استعمال القوة لا يصل إلى حالة عدوان مسّلح لا يكون سببا قانونيا لتبرير استعمال حق الدفاع الشرعي. المادة ( 51 ) من ميثاق الأمم المتحدة كرست بصورة واضحة وجلية حق الدفاع الشرعي عن النفس كحق طبيعي مكتسب لكل دولة إذا ما وقع عليها الإعتداء أن ترده دون أن تترتب عليها أي مسؤولية دولية، لأن فعل الدفاع هنا مبنيا على أساس الدفاع الشرعي. كما تجدر الإشارة أن ميثاق الأمم المتحدة نص على ما يسمى بحق الدفاع الشرعي الجماعي أو بنظام الدفاع الجماعي ، إذ يعني أنه لو كان للدولة الحق في الدفاع الشرعي عن النفس أي الدفاع الشرعي الفردي فإنه بالضرورة يوجد ما يقابله ويسمى الدفاع الشرعي الجماعي يقوم في حالة وجود دولة ضحية لأعمال عدوانية، فتقوم دولة أخرى بمساعدتها على أساس أن الدفاع يحق عن النفس أو حتى عن الغير كما هو في القانون الجنائي الداخلي، وهناك من يعتبر أن أساس قيام حالة الدفاع الشرعي الجماعي هو واجب حفظ السّلم الدولي واّلرد على خرق قواعد القانون الدولي. غير أن هذا الأساس إن أخذ على مطلقه سيؤدي إلى ما لا تحمد عقباه، لأنه سيكون مبرر للتدخل في الشؤون الداخلية للدول بحجة حفظ السّلم والأمن الدوليين، وأكبر مثال على ذلك ما نراه اليوم من تجاوزات للولايات المتحدة في العراق. لهذا فإن الدفاع الشرعي المنصوص عليه في المادة ( 51 ) من الميثاق يكون مؤسسا على وجود تنظيم أو إتفاق إقليمي، بموجبه تخول للدولة العضو أن تمد يد المساعدة للدولة العضو الأخرى التي تعرضت لعدوان مسّلح، و نعني بالإتفاق الإقليمي، إتفاق مجموعة من الدول تقطن إقليما أو أقاليم متكاملة جغرافيا وترتبط بروابط وثيقة من التضامن الإجتماعي. قد تم عمّليا التذرع بحق الدفاع الشرعي الجماعي في أكثر من مرة، كما فعلت الولايات المتحدة في فيتنام ، رغم أن هذا التمسك والتذرع به لم يصاحبه في الواقع العملي أي مراقبة لمجلس الأمن, وهو ما يستوجب التطرق لتعريف الدفاع الشرعي في القانون الدولي الجنائي.
ثانيا: في القانون الدولي الجنائي
لقد عرف الدفاع الشرعي منذ القدم على أنه الوسيلة المثلى لدرء الخطر ويزيل عن الفعل غير المشروع صفة التجريم ويجعله بالتالي مشروعا، إلا أّنه بالمقابل يعتبر حديث العهد في القانون الدولي الجنائي لم يظهر إلا بعد أن تكاملت الأعراف والمواثيق الدولية التي تعتبر أن الحرب جريمة دولية لا يجوز الّلجوء إليها,إذ يمكن تعريفه في القانون الدولي الجنائي على أنه: الحق الذي يقرره القانون الدولي لدولة أو لمجموعة دول باستخدام القوة لصد عدوان مسّلح حال يرتكب ضد سلامة إقليمها أو استقلالها السياسي، شريطة أن يكون استخدام القوة هو الوسيلة الوحيدة لدرء ذلك العدوان ومتناسبا معه، ويتوقف حين يتخذ مجلس الأمن التدابير. اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين. من الواضح أن تعريف الدفاع الشرعي في القانون الدولي الجنائي يتفق مع تعريفه في القانون الجنائي الداخلي وإن اختلف الأشخاص الذين لهم الحق في استعماله، فإن كان الشخص الذي له الحق في استعماله هو الفرد كشخص طبيعي، وهذا في القانون الجنائي الداخلي، فإن الشخص الذي له هذا الحق في القانون الدولي الجنائي هو الشخص المعنوي المتمثل في الدول ، إذ لكل دولة الحق في أن تقابل أي هجوم على إقليمها أو على رعاياها أو على سفنها بالقوة المسّلحة عند الإقتضاء، ولا تتحمل نتيجة هذا العمل أي مسؤولية دولية بشرط توافر جميع شروط الدفاع الشرعي وإن كانت لا تطبق بنفسها فعل الدفاع، بل يرجع ذلك إلى الأفراد الذين ينتمون إليها و يأتمرون بأمرها، لان الدفاع الشرعي يعد سببا من أسباب الإباحة يزيل صفة التجريم عن الفعل ومن ثم لا تترتب أي مسؤولية دولية على عاتقها. تجدر الإشارة أن الدفاع الشرعي في القانون الدولي الجنائي يرتكز على نفس الأسس التي يرتكز عليها في القانون الجنائي الداخلي ، من أن حق الدفاع الشرعي يجرد أفعال المدافع من صفتها الإجرامية فتصبح أفعالا مبررة أو مباحة, وهذه هي العّلة لاعتبار الدفاع الشرعي سببا من أسباب الإباحة ، وبين أسسه القانونية التي تعددت بين فكرة الحقوق الطبيعية، وبين فكرة العقد الإجتماعي, وبين فكرة العدالة المطلقة ،غير أن جميع هذه الأسس مردود عليها، فالنقد الموجه إلى فكرة الحقوق الطبيعية ، أنها لا تصلح مطلقا لتفسير الدفاع عن حقوق الغير، وحتى وإن اعتبرناها صالحة للدفاع عن الحقوق الشخصية، وهو ذات النقد الموجه إلى فكرة العقد الإجتماعي، اما عن فكرة العدالة المطلقة وإن كانت تضم جانبا كبيرا من الصحة باعتبار أن الإعتداء شر وأنه من العدل دفع هذا الشر وإن كان بشر مثله، إلا أنها ليست سببا لتبرير من يرى أن الدفاع الشرعي مانعا من موانع المسؤولية على أساس أنه مبني على فكرة الإكراه الذي يصيب المدافع فتصبح إرادته غير معتبرة نظرا لخضوعه لضغط الإعتداء.(4) هذا الأخير الذي يخلق في ذهن المعتدى عليه شعورا بالخطر يفقده إرادته واختياره، فيتحرك مكرها نحو الجريمة دفاعا عن النفس بحكم غريزته في البقاء، وبالتالي يعدم الدفاع الشرعي الركن المعنوي للجريمة، حيث يجب أن تكون الإرادة فيه حرة مختارة. غير أنه يعاب على هذا الرأي أن الإعتداء وإن كان بسيطا ويسيرا قد لا يؤثر على إرادة المعتدى عليه مطلقا ورغم ذلك ينشأ حقه في الدفاع ، إذن ففكرة الإكراه المعنوي لا تصلح لتفسير الدفاع عن الغير. اما الرأي الآخر من الفقه فإنه يعتبر أن الدفاع الشرعي يلجأ إليه المدافع الذي يمارس وظيفة عامة نيابة عن الدولة التي تكون عاجزة عن رد الإعتداء في لحظة وقوعه، وهذا هو الدافع للأفراد لّلجوء للدفاع الشرعي لرد هذا الإعتداء و عدم السماح له بالتفاقم، فرد الإعتداء هذا يكون بسبب الضرورة. الرأي الراجح هو الرأي الذي يعتبر قيام الدفاع الشرعي على فكرة المقابلة بين مصالح متضاربة للأشخاص و إيثار مصلحة أولى بالرعاية تحقيقا للصالح العام,أي أن حق المعتدى عليه المدافع أهم عند المجتمع من حق المعتدي، فالمصلحة الأولى بالرعاية هي مصلحة المعتدى عليه ، لأن فعل الدفاع و إن أهدر حق المعتدي إلا أنه يصون حق المعتدى عليه. فإن اعتبرنا الدفاع الشرعي سببا للإباحة في القانون الدولي الجنائي يبيح ارتكاب الفعل غير المشروع ويعتبره مشروعا، فإنه لا يكون كذلك إلا إذا تحققت به شروط معينة .
الشروط اللازمة لاستعمال حق الدفاع الشرعي:
لقيام حالة الدفاع الشرعي يستوجب توافر شرطين هما، العدوان والدفاع الموجه ضده ، ولقد وضع القانون الدولي الجنائي شروطا لممارسته باستخدام القوة اللازمة والمناسبة ضد أي اعتداء مسّلح غير مشروع حقيقي حال ومباشر يكون موجها ضد سلامة الإقليم تقوم به الدولة المدافعة فيجرد من صفته الإجرامية ويصبح بذلك عملا مشروعا، هذه الشروط لا تختلف عن شروط الدفاع الشرعي في القانون الجنائي الداخلي إلا في حدود ضيقة جدا .
كبار مجرمي الحرب في أوروبا ، أما محكمة طوكيو فقد جاءت بعدما قامت اليابان بتوقيع وثيقة الإستسلام في 02 دسمبر 1945 التي1-
تضمنت إخضاع سلطة إمبراطور اليابان والحكومة المنشئة للقيادة العليا لقوات الحلفاء والتي كان من سلطتھا تقدير ما تراه لازما من
إجراءات لوضع شروط الإستسلام موضع التنفيذ ، فمن خلال دراسة هذه الأسباب والوقوف عليها يمكن الإعتماد عليها مستقبلا في حال ما إذا وجهت تهم بارتكاب أحد الجرائم الدولية المعاقب عليها، وبالتالي الإعتماد عليها لرفع المسؤولية الجنائية وعدم تسليط العقوبة الجزائية عليهم. فالمستفيد من هذه الأسباب يعد كأنه لم يرتكب الجريمة الدولية نظرا لوجود ظروف معينة سمحت له بالإستفادة منها، فاعتراف القانون الدولي الجنائي بمبدأ مسؤولية الفرد الجنائية عن ارتكاب الجرائم الدولية يقضي بالضرورة إستفادة هذا الفرد ذاته من الأسباب المعترف بها دوليا والتي ترتب ارتكابه هذه الجرائم.