ولو أني غير ضليع أو غير مختص بعلم الموسيقى وبخاصة الموسيقى الكلاسيكية العالمية، ولكني وبلاشك استمع أحيانا وبإذن موسيقية لبعض من تلك الروائع الموسيقية الكلاسيكية العالمية الرائعة، والتي تعبر بصدق عن ملاحم تراجيدية واحداث عظيمة تخص ثقافة وتراث بعض الشعوب، والتي لاتستطيع أغزر اللغات وادق القصص والتراجم أن توصل تلك الأحداث إلى أخلاد النفوس وأعماق المتلقين.
كما وتعرف الموسيقى الكلاسيكية على “انها الموسيقى النموذجية لأي ثقافة ولأي شعب، فمن خلال الزمن والقناعة العامة تصنف الشعوب أعمالها الفنية على انها كلاسيكية عندما يكون جمالها وروعتها يصلح لكل الازمنة”.
وأرى أيضا أن هذا التوجه جدير في أن يصور ملاحم النهضة الحسينية المباركة كمظلوميات وكربات نادرة، ومواقف بطولية تضحوية فذة قل نظيرها في التاريخ، وبالتالي تستطيع هي بنفسها ايصال مفرداتها ومشاهدها المثيرة إلى أوسع مساحة شرائحية في مختلف بقاع العالم بجميع طبقاته الثقافية والفنية والمجتمعية والانسانية، وايصالها أيضا لجميع النشطاء بمختلف اجناسهم من المستشرقين والمغتربين في العوالم الاسلامية والعربية والدولية والوصول بنفسها أيضا لتغطية أبعد نقطة من الكرة الأرضية ليسمعها الناس لسهولة تداولها وسرعة وصولها واستساغة سماعها وشفافية سردها وكثرة تعاطيها، من خلال التسهيلات التقنية الحديثة.
وإذا افترضنا أن ملاحم النهضة الحسينية قد بدأت من لحظة انطلاقها من المدينة المنورة -فهذا لايعني أبدا تجاهل المراحل التي سبقت تلك المرحلة من ذاك التاريخ الحافل بالتداعيات والرزايا، بدءا من رزيتي الخميس والسقيفة وإنتهاءا برزيتي استشهاد الإمامين علي بن ابي طالب وابنه الحسن المجتبى (عليهما السلام)، إذ وتعتبر تلك المراحل جزءا لايتجزأ من ملاحم النهضة الحسينية الخالدة، وهي بحق الجزء الخطير من تداعيات الرسالة المحمدية السمحاء التي غيرت وجه الإسلام لوجه آخر منحرف تماما عن مابشر به الرسول الأكرم(ص)-.
ولنعرج قليلا ولو بشكل مقتضب على مراحل النهضة الحسينية المباركة والتي كانت ولا تزال سببا لإصلاح هذه الأمة، إذ كانت محطته الاولى (ع) بعد خروجه من المدينة المنورة مكة المكرمة وخروجه منها في يوم التروية، ثم التوجه إلى أرض العراق مرورا بأحداث الركب ومنازل السفر، ووصولا الى أرض مابين النواويس وكربلاء وملحمة أحداثها في طف كربلاء وما تبعها من تداعيات السبي التي تعرضت لها سيدتنا زينب الكبرى ومولانا الامام علي بن الحسين وحرم الحسين وأولاده واصحابه وبقية حرم رسول الله “صلوات الله عليهم جميعا”، وما جرى لهم في مجلسي الخبيثين عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية لعنة الله عليهما وآبائهما، حيث ألقيت الخطب التاريخية التي ارتجلاها لقلب الموازين وكشف الحقائق وتغيير قناعة الناس، فكل تلك الوقائع يستطاع أن يعبر عنها برموز وايقاعات وإيحائات موسيقية ناجحة قد لاتتوفر في ملاحم شعبية ومجتمعية تاريخية أخرى، ذلك بسبب عظم وندرة القضية وتفردها بتحمل عبأ الرزايا والمظلوميات والنكبات.
أملي أن يرفع هذا المطلب إلى المرجعيات الشيعية الشريفة، والى الوقف الشيعي، وأمانات العتبات القائمة على مشاهد أهل البيت(ع) في كل مكان وبالاخص الأمانتين العامتين للعتبتين الحسينية والعباسية المقدستين، وعلماء ومراجع الدين العظام، لتفعيل هذا التوجه، وابداء آرائهم الشريفة والاستئناس بها ل”أكلكست ملاحم النهضة الحسينية الخالدة عالميا”، بتشكيل فرقة سيمفونية في كربلاء قوامها أبرز أساتذة علم الموسيقى وكبار العازفين في العراق وفي العالمين الاسلامي والدولي لتأخذ على عاتقها تأليف معزوفات موسيقية سيمفونية كلاسيكية رائدة تمثل الملاحم الحسينية وبقية ملاحم أهل البيت الكرام (ع) في مواقفهم البطولية والانسانية والاستشهادية الفذة على غرار الفرقة السيمفونية العراقية وفرق السيمفونيات العالمية من الناحية الفنية والمهنية والتشكيلية.
ويقينا أن هذا المطلب لو تحقق ورأى النور لفرض نفسه كشعيرة مهمة معتبرة تضاف للشعائر الحسينية المخضرمة المحترمة الاخرى.
كما أن السيمفونيات المنبثقة من هذا المطلب تزداد رسوخا وعذوبة وطلاوة ودقة وجمالا وروعة في التصوير إذا تناولت دقائق الأحداث وأدق التفاصيل لتحولها بعد ترمزيها إلى ايقاعات موسيقية معبرة عنها، كأصوات المعركة وقرقعة السلاح، وضرب السيوف، وسنابك الخيل وصهيلهن وأصوات ارتجاز الرجال، ونحيب النساء وعويل الأطفال، وصوت الاذان في وقت زوال يوم الطف الخالد، والمأساة التي صودرت فيها حياة الطفل الرضيع عبد الله بن الحسين (ع) -من أجل الحصول على شربة من ماء- بنبلة “حرملة” الملعون والمجرم التاريخي المارق المعادي للطفولة والبراءة، وصوت بكاء الطفلة رقية بنت الحسين (ع) واستشهادها فور رؤية رأس ابيها في خربة الشام، وهكذا لبقية أصوات الأحداث التي سبقت وتلت الطف، كاحداث ماحصل لمسلم بن عقيل (ع) في الكوفة، وجعجعة معسكر الحسين(ع) إلى كربلاء، ولتعانق بقية الإيقاعات الطبيعة التي ألهمها الباريء في مخلوقاته، كغضب السماء، واصوات المطر، وخرير المياه وهدير الصواعق ووحيف الرياح…الخ.
ومن شأنها-أي الموسيقى العالمية الكلاسيكية- أن تعمد وتوثق وتفهرس بقية الشعائر الحسينية الأخرى ابتدأءا من خطب عمداء المنبر الحسيني في المجالس الحسينية واداء مقامات الحزن والرثاء والنعي العاشورية والحجار والنهاوند ومختلف المقامات الاخرى المعروفة عند ذوي الاختصاص، وقصائد وجلسات رواديد ومنشدي إقامة العزاء واللطم المقرون بالقصائد الملحنة غاية في الروعة والاداء المتقن والايقاع الرائع، ودون ادنى شك ستكون هذه القصائد والاناشيد نواة ومادة ومصدرا غنيا لسلسلة تلك السيمفونيات، فضلا عن انها ستصلح كموسيقى تصويرية ومقدمات للبرامج والمسلسلات الايمانية والولائية والتاريخية والحسينية، ك”عباس يعيوني، ويهاجر، ويشبه عمه عباس، وروحي مشتاكة، ويريح الهاب، وفدوة للحسين، والمايلطم على حسين، وحيدر حيدر حيدر، وزوروني زوروني يلحباب زوروني، وجابر يجابر، وملايين للحسين ملايين، ويسجلني، وبراءة عشق، وطبعي كربلائي، وأحنا كلنا جنودك، ومشاية، وحياتنا حسين، وآه يازينب، وأبد والله يازهراء ماننسى حسيناه، والسلام عليك، ويحسين بضمايرنا، وأنت منو.؟… حسيني، ويل تنشد علينه منين شيعة علي الوفاية، وأمي جانت طاهرة، وهز الكتايب عباس، وركضة طويريج وسلسلة حلقات نشيد الزمان، والمقتل الذي يروي قصة استشهاد الحسين (ع) وأهل بيته وأصحابه رضوان الله عليهم من اداء الشيخ المرحوم عبد الزهرة الكعبي بصوته الفريد واسلوبه المميز، وقصائد الانشاد المناظرة لهذه القصائد لحمزة الزغير وأبو بشير وحسين الأكرف ومله جليل، وغيرهم، ومواكب الزنجيل والتطبير، وما يرافقهن من شعارات حسينية واشعار ملحنة وفق مقامات معروفة ومصحوبة بقرع الطبول والنفخ في الابواق في ايقاعات حزينة وحماسية رائعة، ومواكب الخدمة هي الاخرى تصدح بعبارات الاستقبال اللائقة والترحيب لأخذ قسطا من الراحة وتناول الطعام الطازج والمشروبات على مختلف انواعها، بالاضافة إلى ماتقدمه من خدمات انسانية وطبية لزوار أبي عبد الله الحسين في زيارة الأربعين، وتتميز أيضا باحياء التراث الحسيني العراقي المتمثل بالتوعية الحسينية والارشاد، وتقديم مختلف الخدمات للزوار، وتأمين المأوى لهم على طول الطرق المؤدية لكربلاء -بالتضامن مع الاهالي القاطنة في مناطق تلك الطرق- مصحوبة ببث القصائد الحماسية الحسينية من خلال مكبرات الصوت، ولمجالس البكاء والجزع والأهازيج الشعبية والعشائرية نصيب في هذا التوثيق، ونصيب محوري آخر للشعر والشعراء التي وثقت النهضة الحسينية وقضية أهل البيت (ع) منذ عصر صدر الإسلام والى يومنا هذا، “فالشعر بصورة عامة-الايجابي منه والسلبي- لعب دورا كبيرا في تاريخ الإسلام، وخصوصا العرب، حتى سئل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم): ماذا تقول في الشعراء؟قال(ص): (إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفس محمد بيده لكأنما تنضحونهم بالنبل)، وكذا قال أمير المؤمنين أبا الحسن علي (ع): (تعلموا شعر أبي طالب وعلموه أولادكم، فانه كان على دين الله وفيه علم كثير).” ولنرى هذا البيان قي قول الشاعر:
لهفي لرأسك مسلوب القنا***يكسوه من انواره جلبابا
يتلو الكتاب على السنان وإنما ***رتعوا به فوق السنان كتابا
وقول الشاعر:
وامض ما جرعت من الغصص التي ***قدحت بجانحة الهدى ايراءها
هتك الطغاة على بنات محمد***حجب النبوة خدرها وخباءها
عجبا لحلم الله وهو بعينه ***برزت تطيل عويلها وبكاءها
ويرى من الزفرات تجمع قلبها ***بيد وتدفع في يد اعداءها
وقوله:
عترة الوحي غدت في قتلها ***حرمات الله في الطف حلالا
قتلت صبرا على مشرعة *** وجدت فيها الردى اصفى سجالا
ياحشى الدين ويا قلب الهدئ *** كابدا ماعشما داء عضالا
تلك ابناء علي غودرت ***بدماها القوم تستشفي ضلالا
والنصيب الأكبر لأقوال عمدة القوم وكبار القادة السياسيين عبر هامش النهضة الحسينية في يومنا هذا كقول: “الشعب الذي لانخدمه لانستحق أن نمثله” وما يناظر هذا القول من شعارات المرحلة والتي تعتبر جزءا من مراحل ملاحم النهضة الحسينية.
وفي أغلب الظن أن أصوات الانفجارات والعبوات الناسفة والأحزمة المفخخة والذبح على الهوية، التي راح ضحيتها عشرات الآلاف من الشهداء -لتشغل المقاعد الشاغرة في قافلة الشهداء التي يتزعمها الامام الحسين (ع) ماضيا وحاضرا ومستقبلا- ستكون ضمن قائمة الأولويات التي توثق في هذا الحيز لتبقى وصمة عار في جباه مرتكبيها من النواصب وشذاذ الدين والانسانية
والحوادث جمة.
فليبقى العراق وإلى الأبد حسينيا رغم أنوف الحاقدين والحاسدين.
وليبقى الحسين عالميا رغم أنوف الناصبة والمارقين.