18 ديسمبر، 2024 10:02 م

«أكثر من طفولة» لفرانسواز دولتو: حكاية جامعة الحكايات

«أكثر من طفولة» لفرانسواز دولتو: حكاية جامعة الحكايات

حدث ذلك ذات يوم خلال جلسة عائلية كان فيها عدد من الأهالي والأبناء يتسامرون فتروي كل أم حكايات من طفولة أولادها، ويغرق الجميع في ضحك لطيف على وقائع تُروى، قبل أن ينتقلوا الى محاولة تحليل كل حكاية في ضوء التحليل النفسي. وكان ذلك طبيعياً بالنظر الى أن نجمة الجلسة كانت عالمة التحليل النفسي وخبيرة سلوك الأطفال فرانسواز دولتو التي كانت في ذلك الحين في قمة شهرتها بعد أن تعرف اليها الفرنسيون من خلال برامجها الإذاعية والتلفزيونية. وكان من بين الحضور ابنة الدكتورة فرانسواز الصبية التي إذ راحت أمها تروي عنها حكايات طفولة ظريفة ومريعة وغريبة أثارت ضحك الحاضرين واهتمامهم، التفتت الى أمها ذات لحظة بكل جدية وقالت لها: «وأنت يا أمي؟ ماذا عنك؟ ماذا عن طفولتك؟ وحكايات حياتك؟ إننا لا نعرف عنك الكثير الى جانب كونك سيدة محترمة وديعة هادئة لطيفة بالغة الذكاء والقوة؟ هل كنت هكذا في طفولتك؟». يومها بوغتت العالمة الموقرة بهذه الأسئلة وأطرقت مبتسمة. وفي تلك اللحظة نفسها كما سوف يقول مؤرخو حياة فرانسواز دولتو وعملها، ولد ذلك الكتاب الصغير (نحو مئة صفحة من القطع الصغير، إن لم نحتسب الصور) والذي سوف يُقرأ حين صدوره بعد شهور قليلة بأكثر مما قُرئ أي كتاب آخر لدولتو. فهو أتى أقل كتبها علميّةً ولكن أكثرها إنسانية أيضاً ليكشف، وكما يدل عنوانه «طفولات» ا -لذا آثرنا أن نسميه في العربية هنا «أكثر من طفولة»-، أن ما من إنسان يمكنه أن يزعم أنه من دون طفولة…

> لم ترو دولتو حكاية طفولتها، إذاً، في تلك السهرة بل وعدت بأن تفعل. اتهمها الحاضرون بأنها تريد أن تأخذ وقتها كي تفكر كثيراً قبل أن تكتب قائلين أنهم يريدون سرداً عفوياً. فقالت انها بالعكس تماماً، لو تستطرد وتروي في السهرة ستفكر كثيراً، أما لو تُركت على سجيتها بضعة أشهر فلسوف تمرّن نفسها على الكتابة بصدق وتلقائية بعيداً من المفاهيم والشروحات والنظريات. وهذا ما كان عليه الأمر بالفعل. جاء النص طفولياً وعميقاً عن طفلة تقول انها ترمّلت وهي في السابعة حين مات خال لها كانت تعتقد أنه خطيبها الموعود! وعن ابنة الثامنة التي أدهشها أن من حولها لم يندهشوا حين أخبرتهم أنها تريد أن تصبح «طبيبة تربية» حين تكبر. وعن ابنة العاشرة التي أذهلها وهي تتناول قربانتها الأولى ان الرب لم يستجب لها وينقذ أختها الحبيبة من السرطان. والمراهقة التي وافقت على أن يتقدم اليها خطيب فقط لكي تتمكن من أن تحدثه عن الموسيقى، فإذا به لا يريد أن يحدثها إلا عن الحبّ!

> على هذا النحو، إذا رسمت فرانسواز دولتو صوراً من طفولتها تمتد من العام 1908 الى العام 1932. لكن الكتاب، على صغره أتى أكثر اتساعاً في دلالاته. فإذا كانت دولتو قد صورت فيه حقباً من حياتها «العادية جداً» وسط بيئة عادية «في عائلة عادية جداً» فإنها وكما ستقول لاحقاً في حوار تلفزيوني أجري معها، حول طفولتها بالذات، أنها إنما آثرت أن تروي الحكايات كما هي تاركة للآخرين أن يستخلصوا الدلالات والعبر. وأن يحللوها في علاقتها مع تلك الطفولة، قائلة أن أكثر ما أراحها كان تلك التعليقات العالمة التي رأت حتى في ما روته بعفوية وعادية، كل تلك الحكايات والتفاصيل الصغيرة التي تكشف كيف يمكن تكوين طفل أو تدميره، ليس من خلال ما يفعله هو بل من خلال ردود فعلنا على ما يفعل.

> لعل سماتها التي تذكّر بسمات جدة طيبة الأسارير مُطَمْئنة على الدوام، هي التي جعلت من فرانسواز دولتو، من أكثر المحللين النفسيين شعبية في فرنسا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ولعل هذه الطمأنينة التي كان الفرنسيون يستشعرونها عبر الإصغاء اليها أو التعاطي معها، كانت هي التي جعلتهم شديدي الحزن حين رحلت عن هذا العالم عام 1988. كانت فرانسواز دولتو عالمة ومحللة نفسانية للأطفال. سمتها المميزة انها جعلت من التحليل النفسي للطفل مادة للتداول اليومي. ومن علاماتها الفارقة انها كانت في آن معاً، صديقة وخصماً لجاك لاكان، سيد المدرسة الفرنسية في التحليل النفسي دون منازع.

> كانت فرانسواز دولتو ظاهرة إعلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فهي، من خلال برامجها المذاعة عبر موجات الأثير، ومن خلال المقابلات التلفزيونية العديدة التي أجريت معها، كانت على احتكاك دائم بجمهور عريض من الناس يقال انه ربّى أبناءه انطلاقاً من نصائحها، تماماً كما يقال أن أميركا ربت أجيالاً بأسرها من الصغار اتباعاً لنصائح الدكتور سبوك. بيد أن فرانسواز دولتو كانت تتميز عن الطبيب الأميركي بدعوتها الدائمة لتفهّم الصغار بدلاً من محاولة تفهيمهم المستمرة. كانت ترى أن شخصية الطفل هي منذ السنوات الأولى شخصية متكاملة، ينبغي التعامل معها على هذا النحو، لا على أساس انها شخصية في حاجة الى بناء متواصل تبعاً للأفكار الجاهزة المتكوّنة اجتماعياً.

> كانت نظريات فرانسواز دولتو هذه، أشبه بثورة ثقافية حقيقية في عالم تربية الطفل، خصوصاً أن السيدة كانت تبث ثورتها هذه من على موجات إحدى أكثر الإذاعات الفرنسية انتشاراً في أواسط السبعينات. ولئن كانت فرانسواز دولتو قد تمكنت من إحداث تلك الثورة في عالم التعاطي مع الطفل، فما هذا إلا لأنها هي نفسها كانت تعتبر نفسها طفلة كبيرة، ولأن طفولتها – بالمعنى الحرفي للكلمة – كانت طفولة محمية الى حد كبير ودرامية الى حد كبير أيضاً، وعلى الأقل كما يمكننا أن نستشف من خلال كتابها الذي نتحدث عنه هنا.

> منذ صباها، وكما تروي لنا هي نفسها في «أكثر من طفولة»، وقفت فرانسواز في التعارض مع أمها التي ما كانت تريد لها أن تدرس الطب، معتبرة الطب عملاً ذكورياً بحتاً. لكن فرانسواز انتصرت في ما أرادته وصارت منذ 1939 طبيبة. وهي طوال الأربعين عاماً التالية من حياتها عاشت بعيدة عن الأضواء تهتم بخاصة بمداواة الأطفال الذين جرحتهم ظروفهم الاجتماعية ونظر اليهم الآخرون على انهم أطفال ضائعون بصورة نهائية. ولكن منذ أواخر سنوات السبعين، حين تيقّنت فرانسواز دولتو من أن تجربتها ناجحة، ومن أنه بات عليها أن تُطلع العالم كله على هذه التجربة، راحت تكثر من ظهورها العلني وتتحدث الى الصحافة جاعلة من نفسها محامية حقيقية عن الطفولة المعذبة.

> وبالطبع لم يمر هذا كله بسهولة، ففي مجتمع كالمجتمع الفرنسي، يحوّل فيه كل شخص نفسه الى أستاذ كبير ونجم أكبر، لم يكن من السهل على امرأة متواضعة أنفقت سنوات عمرها كلها في العمل، أن تفرض حضورها وأفكارها، لذلك حوربت كثيراً، وحوربت حتى من جانب جاك لاكان الذي لم يكن ليسمح لأحد غيره بأن يكون نجماً.

> في ميدانها على الأقل، انتصرت فرانسواز دولتو على جاك لاكان، وتمكنت من أن تجعل لمغامرتها صيتاً طيباً. خصوصاً حينما اكتشف الجمهور انها براغماتية لا تحمل تلك الأفكار المسبقة التي يحملها الجامعيون والمحللون النفسيون عادة. مهما يكن فإن فرانسواز دولتو تدين للاكان بالكثير. فإذا كانت هي قد عرفت كيف تتصدى لعُصابات (بسيكوز) الصغار بكل قوة ومحبة، فما هذا إلا لأنها تعلمت من لاكان حقيقة أن التحليل النفسي لن تقوم له قائمة إن هو لم يتصد لتلك العُصابات، فكان همها في المقام الأول أن تداوي الأطفال من عُصاباتهم. ومن هنا كان لعملها تأثير مباشر وغير مباشر في المحللين النفسيين كافة الذين اهتموا بالأطفال في عهدها أو بعدها، بمعنى ان كل الذين اشتغلوا على التحليل النفسي للطفل عملوا معها أو انطلاقاً من افكارها. ومع هذا لم تسع تلك السيدة البسيطة، أبداً، الى أن تكون لها مدرسة، فكانت ترى انها مخلصة للعمل العيادي العياني المباشر بشكل يجعلها بغير ما حاجة الى أن تكون مدرّسة. كانت فرانسواز دولتو، باختصار، رسولية في توجهاتها وفي عملها، وهذا ما جعل لها تلك الأهمية التي أسبغت عليها بعد موتها، وجعلت الفرنسيين يفتقدونها حقاً خلال السنوات الأخيرة.

نقلا عن الحياة