تحمل خالتنا الريفيات جمالية عفة العشب الطري على وسائد المطر ، وهن في مقاس الذكريات لوحات زينية رسمها اكثر فناني الطبيعة حرفة ، وربما في ليالي القمر المنزلق على اجفان الراديو في ليل الاهوار وهو يصدح بهدوء اغنية مديح الخالات : خاله شكو بصوت زهور حسين تسكننا رجفة الحنين لخالتي ( بنيه ) التي هرمت من كد الحقول وشتال الرز واعتناءها بطفولتنا يوم يجيء الصيف ونذهب بطفولتنا سياحا الى بستان جدي ، وكان كتفيها أجمل اراجيح حياتي عندما تهمس لي : ايها الطفل الحِضريّْ ، ابناء المدينة لايعرفون المشي في طين حقول الرز سأحملكَ على كتفي لترى السماء قريبة فقد تطير بفضاءاتها ذات يوم.
تقع اهوار غلوين قرب ناحية العكيكة في الحافة الشمالية للحقول التي يزرع فيها جدي العنبر بعد أن يجاهد كثيراً في اقناع اهل المشخاب ليبيعوا له بذوره ، فتشم نسائم القصب وهي تحتضن رائحة ( التمن ) حيث لا احد يسميه بهذا الاسم سوى العراقيون ويُقال انهم قرأوه بالخطأ على الاكياس التي حملت الرز الهندي ايام الاحتلال البريطاني ، وجيء بها بسفن الى ميناء الفاو وكانت ماركتها ( TEN MAN ) أي عشرة رجال فترجمها الحمالون بالخطأ وتصوروا اسم الماركة هو ما يطلق على الرز في الهند وإنكلترا فمشى الاسم ( تمن ) القريب من لفظ ( تين مان ).
بين عطر الرز العنبر وأكتاف خالتي بنية لاح لبصري لأول مرة في حياتي مدى الماء والقصب الذي يغطي الاهوار ، وعندما سألتها وأنا مرتبع فوق كتفيها كما المحفة التي يحملون فيها هيلاسلاسي امبراطور الحبشة :
خالتي ، هناك على مد النظر ، لا يوجد نخل ، ولابيوت طين ، فقط الماء والقصب.؟
قالت: تلك الاهوار ايها الصغير ولا تصل اليها سوى المشاحيف .
ــ إلا يذهب اليها جدي.؟
ــ كلا ، فنحن نزرع النخل والرز والقمح ، وهم يربون جاموس ويبيعون القيمر.
ــ وما الفرق.؟
ــ الفرق أن حياتهم اصعب واجمل من حياتنا.
ظلت تلك المقارنة تضرب في رأسي بصدى سحر ذلك المنظر المتسع ، وانا امسك اجفاني وكمن يتأمل من فوق سفينة سندبادية عالم تفتح زرقته الروح ، وتخيلت ضفائر خالتي ( بنيه ) شراعا امسكه كي لا أطير وهي تمشي معي في الحقل الموحل وتتحاشى بمهارة دايات الرز فلا تدوسها، وعندما تنزلني خالتي من كتفيها يضيع ذلك الافق ويختفي وسط سعف النخيل ذلك المدى المفتوح مثل نوافذ سماء لا حجم لها سوى أجنحة الطيور وقد صار بالنسبة لي كل شيء يوم الحقتني شهادة تخرجي من دار المعلمين لأعيش اجمل اعوام الوظيفة معلما في قرية حين ارى الامهات فيها يحملن اطفالهن على اكتافهم وهن يحصدن القصب او يوصلن قطعان جواميسهن الى الماء ثم يعدن معهن الى دفء المواقد اتذكر سفينة الحنان ، كتف خالتي بنيه ، واتخيل نبض قلبها وسائد اتكئ عليها وانا اتمنى في مقدمة تلك السفينة ان اصل يوما ما بمشحوف صغير الى ذلك العالم المكتسي بالخضرة والزرقة معا.
والآن وقد تحقق الحلم ، اتذكر خالتي في عمرها الطويل واتمنى لو أن امهر نجار في هذا العالم يصنع لي مجسما صغيرا لسفينة السندباد كي اهديها اليها..!