لا يحتاج الطفل العراقي إلى من يذكره بخوفه وعجزه عن مجاراة شرور هذا العالم، فمشاهد الرعب والأحزان بأنواعها أصبحت لازمة لا يمكن تفاديها في حياة اليومية.
“الله يحفظ الإخوة الدفانين، الآن في المطعم”.!
كانت صورة السيد حفّار القبور مع ثلاثة من رفاق السلاح وهم يبتسمون للكاميرا بعد يوم (حفر) شاق آخر مشهد علق بذاكرتي ضمن قائمة طويلة من النشاطات الاجتماعية التي كان يدونها الدفّان العتيد في مقبرة وادي السلام بمدينة النجف العراقية، وينشرها على صفحته في فيسبوك، التي كان عدد متابعيها من الأحياء طبعا، الآلاف من المعجبين.
كان حفار القبور يستغل صفحته الشخصية للترويج لعمله، حيث أعلن في إحدى المرات وهو يقف بكبرياء إلى جانب بيوت الموتى التي زوّقها عن حاجته لمساعدين له ويعدهم براتب مجز شرط أن يرسلوا طلبات التوظيف مرفقة بسيرهم الشخصية!
قطعت زياراتي التفقدية للصفحة، بعد أن فاق شعوري بالغثيان حدوده، وعلى الرغم من أنه لم يكن سوى عالم افتراضي إلا أن مدونات وقفشات الدفّان تجاوزت كل حدود طاقتي على التحمّل.
كانت كتاباته الخشنة، التي تشبه في ملمسها رمال مقبرة النجف تثير حيرتي وخوفي خاصة عندما يختتم يومياته في العمل مع الموتى بالعبارة التالية “أدعوا لي بالصحة والعافية والرزق الحلال”!.
لا أعرف ما الذي حلّ بالدفان-النجم، فقد انقطعت عني أخبار صولاته وجولاته في عالم الموتى بعد أن كففت عن متابعة صفحته لكني تذكرته بالأمس فقط، بعد أن صفعتني صورة أخرى لا تقل بشاعة عن صور الدفّان العتيد.
كانت الصورة هذه المرة لمعلم في مدرسة ابتدائية بإحدى مدن العراق برفقة تلاميذه الصغار في حصة دراسية اختار مسرحها ساحة المدرسة المحاطة بحديقة جرداء، أما موضوع الدرس فكان حول “كيفية غسل الميت والصلاة عليه!“، فيما تضمنت أدوات الإيضاح دمية ميتة كانت فيما يبدو تلعب دورها بمهارة مع أوعية ماء بأحجام مختلفة مقرونة بأفواه فاغرة لتلاميذ صغار أكثر مما ينبغي، ليشاركوا في واحدة من أشّد صور الإرهاب فظاعة.
ويبدو أن الإرهاب قد تحول من قتل أبرياء في الشارع بعبوة ناسفة يزرعها وحش بشري إلى قتل الأرواح الجميلة والقلوب الغضّة لصغار أبرياء على يد مريض نفسي يحمل لقب معلم!
لا يحتاج الطفل العراقي إلى من يذكره بخوفه وعجزه عن مجاراة شرور هذا العالم، فمشاهد الرعب والأحزان بأنواعها أصبحت لازمة لا يمكن تفاديها في حياة اليومية.
“هل نحتاج إلى وجبة جديدة من الدفانين، إلى أين ستأخذوننا؟”، تساءلت إحدى المعلمات في صفحتها على فيسبوك، لكن زميلها المعلم في إحدى مدارس العاصمة كان يبدو أكثر مهنية حين انتقد هذا الفعل “غير التربوي”، لكنه استدرك قائلا “هذا الدرس غير مناسب لعمر تلاميذ المرحلة الابتدائية، فالمعلم أخطأ في اختيار الفئة العمرية المناسبة للدرس، فضلا عن أنه غير موجود في المقرر الدراسي”!
يبدو أن حجم الكارثة أكبر من أن يختصر في اجتهاد شخصي من معلم أساء استخدام صلاحياته من دون أن يقدر خطورة دوره في حياة أطفال يتعاطون مع الموت في الشارع، في شاشات التلفزيون، في كوابيسهم وفي وجبة الطعام المغمسة بالذل والحاجة.
مازال حفار القبور ينتظر في صفحته على فيسبوك أن يتسلم طلبات التوظيف للراغبين في العمل معه كدفانين بعد أن يطلّع على أوراق “سيرهم الذاتية” التي طلبها في إعلانه الأخير للوظائف الشاغرة ريثما تقرر وزارة تربية الأطفال المغلوبين على أمرهم، إذا ما كانت ستدرج درس غسل الميت وتكفينه في المنهاج الدراسي بالمدارس الابتدائية أم أنها ستكتفي بتعميمه على مناهج المدارس الثانوية فقط؟
للمرة الألف، أشعر بالغثيان!
نقلا عن العرب