مفردة (موسيقى) إغريقية الأصل، و (ميوز) بالإنكليزية تعني: يستغرق في التفكير، يتأمّل، أو يقول متأمّلاً، كما هي مصدر لهذه المدلولات. و(الموزيّة) في الميثولوجيا الإغريقية تعني إحدى الإلاهات التسع الشقيقات اللواتي يحمين الغناء والشعر والفنون والعلوم، كما تعني مصدر وحي الشعر. كثر ت فيها الأقوال والآراء قديمًا وحديثًا.
قال فيها بيتهوفن : ” يجب أن تبعث الموسيقى النارَ من فكر البشر.” ووصفها جبران بكونها “جسم من الحشاشة، له روح من النفس، وعقل من القلب.”.
هبطت إلى كوكبنا من أعلى علِّيين بإيعاز من البارئ ـ الروح العلوي، الكائن الأول فبل الكون. ألإغريق جعلوا قمة جبل(برناسوس) مستقرًا لمصدر استلهامها برعاية (أبولون) رب الفنون، حيث خصصوا لها واحدة من الربّات التسع المِلاح المكرّسات لرعاية الفنون وحمايتها. إنحدرت إلى كوكبنا، إذعانًا لإرادة الروح الأزلي، المهندس الأعظم، والمبدِع الأول لتصرع الخشونة والشراسة والجبروت، وتنشر الرقّة مع أغاريد الطيور، وخرير الأمواه، وحفيف الأشجار، وهينمات التسيم، ولألأة النجوم؛ ولتُضرم الوجدان بالمشاعر، والأفئدة بالمحبة والحنان، والنفوس بالحمِيّة والحماسة، والأذهان بشعاليل الإلهام والوحي، ولترفد دفقات النفس بالألحان من خلال الوتر والمزمار والحنجرة.
أدرك البارئ بحكمته اللامتناهية أن الحياة على هذا الكوكب ما كانت لتُطاق من دون هذه النفحة العلوية المقدَسة. لكنّ البشرية لبثت دهورًا طويلة، وما برحت حتى الآن وفي غالبيتها العظمى، نائية جدًاعن المسار الذي عناه بيتهوفن في مقولته الخالدة الرائعة: ” يجب أن تبعث الموسيقى النارَ من فكر البشر.” فالأشرار والهمج توسّلوا بها في الشوارع والمغاور، والفاجرون أفسدوا بها مجالس وحيها وإلهامها. سراحين البشرية وشياطينها أهرقوا الخمورَ على هامتها في مقرّاتهم وأوجارهم، وجللوها بالأرجوان مقهقهين صاخبين، وفي مهاوي الأرجاس مرّغوا إسمها أمام الخنازير، وفي دور الملاهي الوضيعة والموبقات إلتذّوا بالإصغاء إلى أنّاتها، والنظر إليها تتلوّى من الألم، وأرغموها على الرقص الخليع، ليرقصوا هم على إيقاع أنغامها.
في سوح القتال، وميادين الحروب والنِزال المفروشة بالجماجم والأشلاء والجثث أشعلوا بأنغامها المثيرة المحفِّزة نيران الخصومات والأحقاد والضغائن. أمّا الطُغاة والعتاة والبغاة والمتهتّكون، فقد سخّروا المنشدين، وأرغموا العازفين على الإنشاد والعزف في مجالس لهوهم وقصفهم ومجونهم. هكذا كانت الموسيقى، إبنة الروح العلوي، وهكذا هي حتى يومنا، فقد بذلت نفسها فداءً عن ذنوب
الأنام، وقاست التباريح فلم تتململ، وسيقت إلى المجازر والأهوال فلم تتأوّه، وضحكت مع المقهقهين، وبكت مع النادبين.
لكنّ قِلّةً خيِّرة نبيلة من بني الإنسان أدركت سموَّ منزلتها، وشرفّ رسالتها، بفضل حكمة الحكماء، ووداعة الودعاء، وعباقرة الإلهام من صاتعي الألحان، وذوي الأرواح العظيمة من مبتكري الأنغام، فحملوا على كواهلهم أعباء المتعبين، وضمّدوا بمراهمهم وبلاسمهم جراح الأفئدة، وأدخلوا رسيس الحب إلى القلوب الوالهة، وسكبوا إكسير التعزية على التفوس الحزينة، واستدرّوا العبرات من مآقي المنكوبين والمضطهَدين والمعدمين، فأراحوهم وجلبوا البسمات الطفيفة إلى ثغورهم بعد أن أذبلتها الأشجان، ورسموا بنتاجاتهم الرائعة معالم الخير والحق والفضيلة والجمال المطلق، وبعد أن عانت البشرية طويلاً وكثيرًا من أعدائها وأشرارها وجهلائها.
قال جبران خليل جبران في الموسيقى: ” الموسيقى كالصباح، تطرد ظلمة النفس، وتنير القلب، فتُظهر أعماقَه. هي نغمات رقيقة تستحضر على صفحات المخيّلة، ذكرى ساعات الأسى والحزن إذا كانت مُحزنة، أو ذكرى أويقات الصفاء والأفراح إذا كانت مُفرحة. هي مجموع أصوات محزنة ، تسمعها فتستوقفك وتملأ أضلُعَك لوعةً، وتمثّل لكَ الشقاءَ كالأشباح. هي تأليف أنغام مفرحة، تعيها فتأخذ بمجامع قلبك، فيرقص بين أضلُعِك فرحًا وتيهًا. هي رنّة وتر، تدخل مسمعَك محمولةً بنموّجات الأثير، فقد تُخرجُ من عينيك دمعةً محرقة أثارتها لوعةُ نأيِ حبيبٍ، أو آلام كلومٍ خرقها نابُ الدهر، وربما خرجت من بين شفتيك إبتسامةٌ، كانت والحق عنوانَ السعادة والرخاء. هي جسمٌ من الحشاشة، له روح من النفس وعقل من القلب.”
* * *
قال (جان برتليمي) في الفصل الثالث من الجزء الثاني من كتابه ـ الترجمة العربية ـ (بحث في علم الجمال) : ” وظيفة الموسيقى هي التعبير عن أعماق الحياة العاطفية”. وقال أيضًا :” الموسيقى أشدّ الفنون تأثيرًا في النفس، وأشدّها تمرّدًا على التحليل. فهي في جوهرها لا تدين بشيء لعالم الملموسات، ولا لعالم اللغة، ولهذا يجري تشبيهها بهذا الشيء الذي لا يمكن التعبير عنه في الشعر، وفن التصوير، باعتبار أن تناسق الألفاظ وتناسق الألوان والخطوط يمتّان بالقرابة لتناسق النغمات. ويؤكّد ميكايل أنجيلو أن من الضروري أن يكون فن التصوير السليم موسيقى وميلوديا”.
ويقول (برتليمي) في موضع آخر عن بيتهوفن إنه قال: ” الموسيقى هي الوسيلة الوحيدة التي تُوصلنا إلى عالم أرفع، ذلك العالم الذي يضمّ الإنسان، والذي لا يستطيع الإنسان أن يضمّه “. ويضيف برتليمي قائلاً : “الحقيقة إننا نرى الموسيقى ترتبط دائمًا بالدين . فالنشوة الموسيقية مثلها النشوة التصوّفية، تقرب من كل ما يعصى على التعبير والنطق، ومما لا يمكن التعبير عنه باللغة . وفيلسوف من فلاسفة ما وراء الطبيعة مثل (شوبنهاور) قد يكون على حق حين يمنح الموسيقى صفة القدرة على إعطاء أسماء المظاهر الظواهرية، وعلى ضبط الشيء في ذاته، وعلى الإتصال بجوهر الطبيعة.”
وحينما يتطرّق إلى المستوى الروحي للموسيقى، يقول : ” …. ولا ترتفع جميع أنواع الموسيقى ـ لا شك ـ إلى مستوى واحد من الروحيّة؛ فالنفس البشرية تضم قِممًا ووهدات…وهكذا الموسيقى، إذ هي قادرة على تهدئة غرائزنا، لكنها تستطيع أيضًا أن تبثّ فيها الهياج. فهي تساعد على إيجاد النشوة السفلى والنشوة العليا على حدٍ سواء. فالطقوس السحرية التي تغلب عليها القسوة والبذاءة في الأديان السفلى لا تتم إلاّ في انتشاء جماعي، تعمل على إيجاده أنغام “التام تام”، كما كان محاربو العصور كلها يذهبون إلى المذابح على أنغام الطبول.. والموسيقى تلطّف الأخلاق ما دامت تعمل على تنقية القوى الروحية والجنسية…ولا شك في ان مؤلّفي الموسيقى يتّصفون بالسطحية أو العمق تبعًا لنوعية روحهم، كما يتّصفون تبعها أيضًا بالجدّية أو الهزل، أو بالعذاب والهدوء، ولا يستطيع كل موسيقي على السواء أن يذهب بنا إلى قمة الهدوء الروحي الذي يوصلنا إليه الموسيقار جان سباستيان باخ.”
للموسيقى مكانة رفيعة على الصُعًد الإبداعية والثقافية والروحية والنفسية، فأقاموا لها صروحًا هي دور الأوبرا الفخمة الأنيقة، وابتكروا لها أجمل الآلات وأعذبها أصواتًا وأحسنها تعبيرًا عن خلجات النفس ومشاعر القلب. وأروع ما شاهدتُ منها مؤخرًا على شاشة التلفاز دار أوبرا (براغ) الجيكيّة. وكان فردريك الثاني ملك صقلية، ثم الإمبراطور الجرماني (1194 ـ 1250)، يُجيد العزف على الناي(الفلوت). وقبله بألفي سنة كان ملك سومري يتباهى بعزفه على أربع آلات وترية. أما النبي داوود فكان ينشد مزاميره مصحوبة بآلة وترية أحيانًا وبالناي أحيانًا. ومن دور العبادة المسيحية، شرقًا وغربًا، تنطلق أنغام أضخم وأصغر الآلات نحو العلاء لتسبيح رب السموات والأرض، مصحوبة بأعذب وأجهر الأصوات من حناجر عباد الله تمجيدًا وابتهالاً.
منذ مطلع شبابي ترسّخ في ذهني أن للموسيقى رسالة سامية، هي رفع المستوى الروحي والمستوى الذوقي للإنسان، وأنها تعزية للأرواح الحزينة، ومجلبة للمسرّة إلى المرهَقين والمكلومين، وأنها حافز الأفراد والجماعات على النضال في سبيل الخير والحق والفضيلة والجمال المطلق. وقد ذكرتُ آنفًا بعض أقوال عظام وعباقرة منتخصصين تؤيّد معتقدي. وأختمها برأي(رومان رولان) ـ كاتب سِيَر العظماء ـ في كتابه عن بيتهوفن، إذ قال : ” في الواقع، إنه أكثر من أن يكون أعظم الموسيقيين فقط.. إنه أكبر وأفضل صديق لأولئك الذين يتعذّبون ويناضلون.” فالموسيقى للذين يتعذّبون تعزية وسلوى، وهذا شطر من رسالتها، والموسيقى للذين يناضلون حافز وباعث في مضمارهم، وهذا شطر آخَر من رسالتها. فرسالتها إذن مقدّسة وسامية.