بعد مضي نصف قرن من عمري الفاني، قضيت ثلثيه خارج الوطن مهاجرا مغتربا، رزقني الله عام 2012م زيارة مدن شمال العراق لمرتين، واحدة في رحلة عمل والثاني في رحلة سياحية مع العائلة لقضاء أيام عيد الفطر المبارك، وشمال العراق كأي شمال في أي بلد، بشكل عام، تتمتع جغرافيته بالمرتفعات والوديان والبحيرات الى جانب الشلالات، ولفت انتباهي في هذه الزيارة ضعف المياه الساقطة من بعض الشلالات التي زرناها، فهي لا تشبه الشلالات الواقعية، وقد ساقني فضولي الصحفي الى جانب الفضول المعرفي الى تتبع الأمر، فلاح لي من علٍ خرطوم ماء (صوندة) يسيح منه الماء على سفح جبل فيتساقط الى الأرض كشلال، فسألت دليلنا وهو من سكنة أربيل عن حقيقة الشلال، فابتسم في وجهي وقال بصراحة أنها حنفية ماء، لأننا في غير موسم الشلالات، وأصحاب المطاعم والمقاهي المجاورة لمساقط الشلالات يعيشون على مثل هذه المشاهد التي تستقطب الزائرين والسائحين، والناس بطبيعتها تأتي لهذه المناطق بوصفها مساقط شلالات تبعث في صدورهم البهجة والفرح. مثل هذه الوضع شاهدته في مدينة شانديز من ضواحي مشهد في إيران في زيارتي مع الأسرة في صيف العام 2015م، فالمطاعم والمقاهي تستقطب زوارها على وقع مساقط مياه الشلالات الاصطناعية، ولكن ما يميز شلالات إيران عن مثيلاتها في العراق، أن مضخة الماء في الأولى ظاهرة للعيان وفي الثانية غير مرئية مما يعطي الإنطباع أنها شلالات واقعية.
وأعتقد أن مثل هذا الأمر يحدث في كل المناطق المرتفعة التي ينزل فيها ماء الشلالات في أشهر معينة من السنة وتنقطع في أشهر أخرى، ولأن الطبيعة جميلة يشتاق المرء الى رؤيتها بخاصة في فصلي الربيع والصيف وبقية من خريف، فإن المياه ستظل تهبط بشكل طبيعي أو اصطناعي من اجل إسعاد الإنسان، فلا غنى عن الماء لشربه أو غسله أو طبخه أو تجمّله، واليه أشار الحديث النبوي الشريف: (ثلاث يزدن في قوة البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن)، وعنه صلوات الله عليه: (أديموا النظر إلى الماء الجاري فإنه يذهب بالغم)، وهذه الثلاثية صارت مضرب الأمثال، ودخلت كقواسم مشتركة في لغة الأدباء ونظم الشعراء، وفيها قال الشاعر:
ثلاثة تجلو عن القلب الحزن … الماء والخضرة والوجه الحسن
وفي الأمثال: (ثلاثة من الحظ الحسن الخضرة والماء والوجه الحسن)، وفي القصص أن رجلاً نزل ضيفاً على قوم فسأله زعيمهم عن مشتهاه، فقال الضيف: أعزّ مفقود وأهون موجود، ففهم السيد مراده فقال لغلامه: أسقه ماءً.
فالماء للإنسان والحيوان والبيئة والطبيعة وكل ما في الوجود هو حياة، والموت في عدمه، فالكون كله قائم على الماء، وفيه قال الرب الحكيم في القرآن العظيم: (وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) سورة المائدة: 30، ورغم هذه الحقيقة المعجونة في ضمير الإنسان وسلوكه ومراحل حياته ونموه، فإنه يجهل أهمية هذا السائل الحيوي، ولجهله يسرف فيه شرباً وغسلاً وزراعة يتركه يجري في الوديان والأنهار نهباً للبحار والمياه المالحة ولا يحبسه في خزانات أرضية طبيعية وسدود مائية اصطناعية، ولذلك عند انعدامه أو انحباسه يظل الإنسان يبحث عنه في كل مكان، فلا يجده في الأرض ولا في السماء رغم النصب والشقاء والعناء، وحتى يستنزل المطر ويستحصل الماء لزرعه وضرعه، تتوجه الأنظار الى رب المطر، ولكي يأخذ البعد الإنساني المأساوي بوصلته الطبيعية الى من عنده موازين الأرض والسماء، فإن الإسلام أطرّ عملية دفع الجفاف ورفع الجدب وحبس المطر في إطار تعبدي فكانت صلاة الاستسقاء لطلب الماء، يوقفنا على جزئياتها ومسائلها المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب “شريعة الإستسقاء” الصادر حديثا (2015م) عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 56 صفحة ضمّ 90 مسألة فقهية مع 25 تعليقة للفقيه القاضي آية الله الشيخ حسن رضا الغديري سبقها بمقدمة كما سبقها الكرباسي بتمهيد أجمل فيه برؤية حديثة ما فصلته المؤلفات الفقهية.
الاستسقاء والاستصحاء
والاستسقاء مصدر استسقى، أي الاستفعال الدال على الطلبية ومراد تحقيق الشيء، واللفظ تحقق فيه معناه التصوري وهو طلب الماء للاستسقاء من أجل الزرع إذا حلّ الجفاف والجدب، وتوسع فيه معناه التصديقي ليشمل طلب عموم المطر والماء من أجل الزرع والضرع ليشمل الإنسان والحيوان وعموم البيئة، فهو ماء للسقي والشرب والغسل وكل ما يمكن الاستفادة منه، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (الاستسقاء: هو طلب السقي عندما تقل المياه ويكون الناس في ضنك وضيق في تأمين الماء سواء للشرب أو لسقي حقولهم ومزارعهم أو دوابهم أو لسائر استخداماتهم للماء).
وعندما يتحقق الجفاف في بلد، فإن الإنسان بفطرته يتوجه الى بارئه يستنجده طلباً للماء، وجاء الإسلام ليضع بلسمه على جراحات الناس بتوجيههم نحو اداء صلاة الاستسقاء القائمة على الصوم ثلاثة أيام وإقامة ركعتي صلاة والخروج الى الصحراء والدعاء لأجل الاستسقاء، على أن يصحب هذه العبادة الاستغفار، لأن الذنب مجلبة للجدب والشر مثلما هو الشكر مجلبة للرزق والخير، وهو مفاد قوله تعالى:
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) سورة الأعراف: 94، وقوله تعالى: (وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) سورة الجن: 16، في المقابل ضرب لنا مثلاً في الناكرين لأنعمه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) سورة النحل: 113، وبالشكر تزداد النعم وبعكسها تحل النقم، وهو مفاد قوله تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) سورة إبراهيم: 7.
ولاشك أن لمسألة الاستسقاء جنبتين مادية ومعنوية، بتنا ندركهما عن قرب وبخاصة مع تطور العلم الذي دلّنا أن السموم الكثيرة والأدخنة المنبعثة من المصانع والمعامل ساهمت على سبيل المثال في الاحتباس الحراري وحدوث شروخ في طبقة الأوزون، كما أن زحف البناء في المدن ساهم بشكل كبير في ايجاد التصحر، وهناك معادلة أقرب ما تكون بالطردية بين الزراعة وغيث السماء، فحيثما يكون النبات يكون المطر وبخلافه الجدب والجفاف، فالإنسان له أن يجر السحاب اليه وله أن يبعدها، فتصرّفه له دخل في المطر، فحيثما أصلح البيئة يكون الماء وحيثما يفسدها ينضب الماء، وهذا ما يعبر عنه في أحد أوجه القضية بالذنوب المحاقة للخير والمجلبة للشر، وفيه تظهر ملامح الجنبة المعنوية، وفي الحديث الشريف عن الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع): (إذا فشت أربعة ظهرت أربعة، إذا فشا الزنى كثرت الزلازل، وإذا أُمسكت الزكاة هلكت الماشية، وإذا جار الحكام في القضاء أمسك القطر من السماء، وإذا خفرت الذمة نُصر المشركون على المسلمين).
وفي بعض الأحيان وربما في كثيرها، تكون زمرة قليلة من المذنبين أو المفسدين سبباً في انعدام الخير عن بلدة بكاملها، ولذلك يتوجه الداعي الى الله مستعيذاً به من هذه الشرذمة وإبليسهم، ومن ذلك قوله موسى عليه السلام: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ) سورة الأعراف: 155، من هنا فان معظم الأدعية المستحبة قراءتها عند الاستسقاء تشير الى الذنوب وتأثيرها السلبي على الحياة اليومية، من ذلك: (اللهم منك ارتجاؤنا، وإليك مآبنا، فلا تحبسه عنّا لتبطّنك سرائرنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد)، ومن الأدعية: (يا حي يا قيوم عدد الشجر والنجوم، والملائكة الصّفوف، والعنان المعكوف، وأن لا تردنا خائبين، ولا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تحاصّنا بذنوبنا، وانشر علينا رحماتك بالسحاب المتّئق، والنبات المونق ..)، وفي الدعاء أيضا: (أللهم إنا نعوذ بك من الشرك وهواديه، والظلم ودواهيه، والفقر ودواعيه، يا معطي الخيرات من أماكنها، ومرسل البركات من معادنها، منك الغيث المغيث، وأنت الغياث المستغيث، ونحن الخاطئون من أهل الذنوب، وأنت المستغفر الغفّار، نستغفرك للجهالات من ذنوبنا، ونتوب إليك من عوامّ خطايانا).
ولا أكثر سوءاً من عطش الأرض والانسان والحيوان ودمار البيئة، من هنا وعند رحلة العبادة الى الصحراء: (يُستحب أن يخرجوا معهم الشيوخ والأطفال والنساء العجائز بل العجزة والمعوقين لمزيد الانكسار، كما يُستحب أن يخرجوا معهم أهل الصلاح والورع ممن يظن استجابة دعائهم)، كما: (إذا خرج أهل الذمة معهم فلا يُمنعون لأنهم عبيد الله ولهم أن يطلبوا أرزاقهم)، ولأن انحسار المطر على علاقة مباشرة بالحيوان فإنه: (يُستحب أيضا إخراج البهائم والأنعام لمزيد الرحمة وجلب العطف).
سياسة مائية سليمة
وبقدر ما تكون الحاجة الى الصلاة جلباً للمطر مطلوبة ومشروعة، فإن هذا لا يعني التواني عن اتخاذ الخطوات الكفيلة لمنع حصول الجدب أصلاً، ومن الخطوات الجديرة في هذا الاطار مد شبكة سليمة من قنوات السقي والرعي، وبناء مخازن المياة والسدود وحفر الآبار الارتوازية، وتشجيع الزراعة والرعي، والحد من الهجرة السلبية الى المدن وهجران المزارع والمراعي، واستخدام التقنية في تحلية مياه الشرب، وتشجير شوارع المدن وأزقتها، وحمايتها بخطوط من المساحات المزروعة الى جانب انشاء الأنهر والترع والبحيرات الصناعية والاعتناء بما هو قائم أصلاً ، وغيرها.
ولأن المياه من القضايا المهمة في حياة الشعوب تم توقيع المعاهدات والتعهدات الدولية في تنظيم حركة الأنهر في الدول المتشاطئة وتوزيعها والاستفادة منها بشكل عادل وعدم استئثار دولة بالمياه بحجة أن النهر ينبع من عندها أو يمر منها، فكل الدول المتشاطئة لها حق فيه، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: (لا يجوز منع الشعوب من الوصول الى المياه ومنعها عنهم)، وذلك لأن: (الناس في أي قطر سواسية في حاجتهم الى الماء، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين)، من هنا: (لا يجوز التفاضل بين المسلمين ولا بينهم وبين غيرهم فالجميع في ذلك سواء) بل: (لا يجوز قطع الماء عن الناس حتى في الحروب وإن كانوا غير مسلمين)، وعليه: (لا يجوز منع الماء عن العطاشى)، كما: (لا فرق في إرواء الآخر كونه مسلماً أو كافراً أو من أهل الكتاب، وكذا الحال في الحيوان والشجر)، وتأسيساً عليه: (يجب على الدول المجاورة أو غيرها القادرة على تزويد الدول التي تعاني من نقص الماء إذا كان لديهم فائض، ولا يجوز منع الماء عنهم)، وهذه النقطة الأخيرة هي التي يؤكد عليها عقلاء البشرية ويحذرون من حروب قادمة محورها الماء، بل ويدعو البعض الى مبادلة النفط بالماء، وقد أصبحت الأخيرة حقيقة قائمة في عدد من البلدان إذ تجد قنينة ماء الشرب أغلى من لتر النفط أو وقود السيارات.
والمفيد ذكره أنه بأزاء صلاة الاستسقاء هناك صلاة الاستصحاء، وهو طلب تحقيق الصحو، وذلك عندما تفيض السحاب بمائها على أهل الأرض وتزداد السيول والفيضانات، فالحالة الوسطية هي المرغوبة، على أن بعض الحكومات لفشل سياستها المائية عجزت عن استيعاب الأمطار الزائدة، فيقع التقصير عليها في حال حصول الجدب وعكسه.
وهكذا فلا مناص من الالتفات الى أهمية توفير المياه لبني البشر لمواجهة تحديات المستقبل، وصلاة الاستسقاء عبادة تحقق باذن الله استنزال المطر عندما يسود الجدب البلاد والقحط العباد.