إن سرقة الأنفس والعقول هي أعظم من كل جرم يرتكب، ولكن ـ ويا للأسف ـ ليس لها فقرة قانونية تعاقب مرتكبيها وتجرمهم، فقتل الشخصية أعظم وآلم من قتل الشخص، فعيش الإنسان كالأنعام وهو الذي خلقه الله سبحانه كي يكون صورة له معرفا به، باحثا جادا مخلصا متفانيا في طريق العلم أمر محزن جداً، وحال مزرٍ، حيث نجد المؤسسة الدينية والتربوية تصنع جمهورا لا همّ له سوى البحث عن لقمة العيش، وكأن الله سبحانه خلقه وأعطاه كل هذه الامتيازات ليأتي في النتيجة ويكون عاملا عمل البهيمة تماما كما وصف الحال هذا أمير المؤمنين وسيد الموحدين علي بن أبي طالب(ص) : [أ أقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين و لا أشاركهم فى مكاره الدّهر ؟ أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش ، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات كالبهيمة المربوطة همّها علفها ، أو المرسلة شغلها تقمّمها ، تكترش من أعلافها ، و تلهو عمّا يراد بها …]، وواضح هنا أن ما يراد من الإنسان بوصفه مكلفا، أن لا ينشغل عن تكليفه وينصرف إلى ما انشغلت به البهائم (أجل الله من يسمع ويعي).
ماذا يقول المتصدين للخطابة الدينية والفتوى للناس؟؟ يقولون لهم بلسان الحال والمقال العبارة التي شاعت وانتشرت بين الناس انتشار النار في الهشيم وهي ـ باللهجة العراقية ـ (ذبها براس عالم واطلع منها سالم) أي يقولون للناس أنتم اذهبوا وانغمسوا بطلب العلف الدنيوي اما قضايا الدين فاتركوها علينا (فمعنى ذبها أي ألقها على عاتق العالم، والعالم هنا المقصود به الفقيه والمرجع)، ولكن لا أدري بأي دليل ضمنوا لمن يفعل ذلك (سلامة الدين)، والله سبحانه في كتابه الكريم لم يعطي لأحد من العباد صك سلامة غير محمد(ص) وآل محمد(ص) في آيتي الفتح، والتطهير، أما ما سواهم من الناس فهم ممتحنون وهم على خطر عظيم حتى يختم لهم، كما ورد عن الطاهرين(ص) قولهم : الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم حتى يختم لهم.
هل رأيتم الفارق العظيم بين النهجين؛ نهج يفتن الناس ويسكرهم في ظلمة الجهل حد غياب الوعي حتى يكونوا حطبا لجهنم وهو نهج (ذبها براس عالم)، ونهج آخر لا يفتأ يذكرهم بالآخرة ويأمرهم بطلب العلم، ويجعل من طلب العلم فريضة واجبة على كل مسلم، وليس واجبا كفائيا، كما يزعم ويفتي الفقهاء، ليجعلوا الأمة مختطفة بأيديهم مستلبة لهم، يعيشون على ظهرها كما تعيش الكائنات اللزجة على ظهور غيرها لتمتص دمها وتعتاش عليها، وإلا فالأحاديث والروايات الكثيرة صريحة في النهي عن الاكل بالعلم والدين والقرآن، حيث ورد عن الإمام الحسن العسكري(ع) عن آبائه عن جده رسول الله(ص) أنه قال: أتدرون متى يتوفر على المستمع والقارئ ـ أي مستمع القرآن وقارئه ـ هذه المثوبات العظيمة؟ إذا لم يجفُ عنه، ولم يستأكل به، ولم يراء به.(وسائل الشيعة للحر العاملي: ج27/ص33)، وهناك باب عقده الشيخ الكليني في الكافي يبين فيه موقف الدين من المستأكل بعلمه المباهي به من خلال روايات الطاهرين(ص) في الجزء الأول من الكتاب لمن شاء أن يقرأ ويبحث ويدقق، ويزن ما يحصل اليوم بميزان الحق ليتبين له فعل أولئك الذين يريدون أن يستأكلون بدين الله سبحانه!!
انظروا إلى الساحات والمرافق العامة في العراق اليوم بدأت تزدحم فيها الأعلام الملونة، والإعلانات عن الرواديد والخطباء، وها هو العراق يدخل دوامة الشهرين، بدعوى (إحياء الشعائر الحسينية)، وفي العام الماضي كان الإحياء عجيبا غريبا، حيث توقف العمل، وامتلأت ـ للأسف ـ حاويات القمامة بألوان الأطعمة التي تحن إلى شيء منها بطون استوطنها الجوع فلا عهد لها بالشبع ردحا من الزمن!! وهنا سؤال كبير يفرض نفسه: هل إحياء الشعائر يكون بالإسراف في الإطعام إلى حال تمتلئ به حاويات القمامة، ولا يذهب لمستحقيه؟؟ هذا جانب، الجانب الآخر المهم جدا اقتصاديا : لو وازنا صرفيات البلاد في مسألة الطعام المهدور، وما يتعلق بكل الفعاليات التي تتم، بناتج البلد من العمل في تلك الأيام فسنرى أن كفة الإسراف تبلغ حدا لا يصدق، فهل هناك عاقل يرضى بهذه الأعمال التي لا وجود لها في شريعة الله الحق، بل أن الشريعة نهت جهارا نهارا عن الإسراف، ونهت عن كل ما هو سيء بالتصرف والعمل، وهذا ما نراه غائبا تماما فيما يدعون أنه (شعائر حسينية)!!
الآن نصل إلى المهم في قضية الحسين(ص) قتيل شاطئ الفرات الذي تحدث عنه الإنجيل، وكانت رزية كربلاء رزية عظيمة فضحت الانحراف عن الإسلام الحق، وتبين أن الإسلام ليس لعقا على الألسن، بل هو عمل وترجمة للقول يكشف عن حقيقة التوحيد، فالتوحيد ليس فلسفة أو إجالة أفكار أو مضغ ألفاظ وتحسينها وزخرفتها، بل التوحيد عمل على وفق المنظومة البيانية الإلهية، وهذا الأمر كان في كربلاء واضحا، حيث انماز منهجان؛ منهج ترجم التوحيد عملا وكان قائد هذا المنهج ورائده الحسين(ص) ومن خلفه التابعين له، ومنهج لاك التوحيد لسانه ولم يتجاوز تراقيه، فكانت (أناه) هي العاملة ولسانه ينطق بخلاف حركة قدميه ويديه وقلبه، وكان يمثله الفريق المقابل الذي يشهد بلسانه بالشهادتين ـ كما هو الحال اليوم ـ ولكنه لم يتورع عن سفك دم حرام في شهر حرام، في بلد حرام، إذن من يريد أن يحيي شعائر الحسين(ع) فليحييها بالعمل لا بالألفاظ والألحان والنواعي، واستدرار الدموع التي غالبا ما تشعر المبالغة فيها أنها لا تختلف عن دموع التماسيح، وليعي القارئ الكريم أن هذا القول الصادم حتى ينتبه ولا يسرقه السارقون بحجة البكاء على الحسين(ص) ويدخلونه الأنفاق المظلمة التي لا نور فيها، فالحسين(ص) وثورته الإلهية كانت نورا أنار درب المحرومين والمستضعفين، ولم تكن ثورة الحسين(ص) في كل تفصيل من تفاصيلها غطاء للفاسدين والمفسدين، فانتبهوا يرحمكم الله!!
يصعد الخطباء على المنابر لا هم لهم غير الدارميات، وخلق القصص الخرافية التي تشعر السامع بأسطورية الحدث، على الرغم من أن الحدث تاريخي موثق إلا أن خيال الحكايات الشعبي تسلل إليه وراح يذهب به يمينا وشمالا، حتى أن هذه الأسطورية في سرد الواقعة جعل الناس يختطفون باسم الحسين(ع) عندما خرجت على الناس أبواق المؤسسة الدينية وهي تصرخ نهارا جهارا بلا خوف من الله ولا حياء منادية في الناس : (إن خروج المرأة إلى الانتخابات كخروج زينب إلى كربلاء)!!! وبدلا من أن يتبين الناس هول هذا القول الذي {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}(مريم/90)، راحوا يهرولون هرولة إلى صناديق صنعها نفس الفكر الذي صنع رزية كربلاء، فالصناديق نفسها هي التي أوصلت يزيد (لعنه الله) إلى سدة الحكم، وها أنتم اليوم جميعا لا تجدون خطيبا للجمعة ولا سياسيا برلمانيا أو حكوميا إلا ويصرح بعالي الصوت (أن سيل الفساد بلغ الزبى)، فهل رجعت الناس إلى المرجعيات وحاسبتها على قولها العظيم الذي ذبحتهم فيه من الوريد إلى الوريد؟؟ وهي تنظر إليهم لا تحرك ساكنا، بل على العكس إلى الآن لم يتغير موقف المؤسسة الدينية الساند لعملية هي بلسانها وفي كل جمعة تصفها وتصف رجالاتها بالفساد، بل ورجال العملية يصفونها بالفساد، وإلا ماذا يعني قول مسؤول كبير في الدولة (إن لدي ملفات فساد لو أتيت بها إلى البرلمان سأقلب الدنيا)!!! والعجيب أن هذا المسؤول يقول عن نفسه أنه متدين، وكأنه لم يقرأ أو يسمع يوما قول رسول الله(ص) : الساكت عن الحق شيطان أخرس؟؟!!
أما آن الأوان ايها الناس أن تنتبهوا، لماذا تصرون على العودة إلى الجحر نفسه الذي لدغتكم منه أفعى الدنيا والفساد أربع مرات وها أنتم مقبلون على مرة خامسة؟؟ هل يعقل أنكم أدمنتم لدغ الأفعى واستمرأتم سمومها حتى صارت العافية والصلاح مرضا بأعينكم؟؟!! هل تنظرون إلى أين تساقون؟! هل تعطيل الحياة، والإسراف، وإيقاف عجلة العمل، والسير المرثوني الاحتفالي إلى كربلاء بذريعة إحياء الشعائر هي من منهج الحسين(ص)؟؟ أليس هذا الذي يحصل هو تزييف صريح لثورة الحسين الإلهية؟؟!! هذه غيض من فيض من الاسئلة التي ينبغي على الناس أن تطرحها على طاولة البحث والفحص والتدقيق، عسى أن تنتبه وتتعامل مع مناسبة كربلاء تعاملا إيجابيا يكون امتداد حقيقيا لصرخة الحسين(ص) القائل : [وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر …]، وها أنتم اليوم تنظرون بأم أعينكم يعلنون المنكر ولا يتناهون عنه، ويحاربون المعروف ويصفونه بتهمة الإرهاب، مع أن الإرهاب هو ثمرة من ثمار شجرة الفساد، وليس ثمرة من ثمار شجرة الصلاح، فهل من عاقل فيسمع، وهل من واع فيعي؟؟!!