18 ديسمبر، 2024 9:15 م

تماما.. مثل الدون كيشوت بطل رواية الأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا “دون كيخوتي دي لا مانتشا”، مع فارق واحد فقط هو أنه كائن حقيقي وواقعي، فهو الآخر يخيل إليه وهو يمتطي صهوة جواده أنه يحقق الإنجازات والانتصارات العظيمة وغير المسبوقة على خصومه، الذين أضحى عددهم يتزايد داخل وخارج مقرات التنظيم، في حين أن الأمر ليس كذلك إذ لا يخرج عن نطاق القيام بأكبر عملية متاجرة لقدسية الدين في تاريخ المغرب الحديث وبدعم وتنسيق مع جهات نافذة ومتحكمة.
فالذين يعرفون عبدالإله بنكيران جيدا يعرفون أنه لا يستمد قوته من قاعدة شعبية وجماهيرية بناها وبدل من أجلها الغالي والنفيس كتلك التي توجد عند كل زعيم أو مسؤول مجالي أو حزبي، ولكن يستمدها ومند أن أطل برأسه لأول مرة على الحركة الإسلامية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من علاقاته مع أجهزة وزارة الداخلية المغربية على عهد الوزير الأسبق إدريس البصري، ويعرفون أيضا أنه كان مكلفا بجمع ما تبقى من جماعة الشبيبة الإسلامية، وأنه كان يتردد على مراكز الاعتقال لجمع توقيعات المعتقلين الإسلاميين ضد عبدالكريم مطيع، كما صرح بذلك الأمين العام لحزب البديل الحضاري المنحل، المصطفى المعتصم.
ولذلك لم يكن منذ البداية مرحبا به ولا موضع ثقة وكان الجميع ينظر إليه بعين الريبة والتوجس والشك، حتى أنه في كل اجتماعاته وتحركاته داخل الوسط الإسلامي كان فقط يدافع عن نفسه وعن علاقاته المشبوهة، ولهذه الأسباب سيلجأ بنكيران إلى إغراق التنظيم (الحزب والحركة والعمل الموازي) بأشخاص لا علاقة لهم بالمشروع الإسلامي حتى يكون لنفسه أتباعا ومريدين وأغلبية داخل المجلس الوطني للحزب ومجلس شورى الحركة، ويسند لهم مهام ومسؤوليات إستراتيجية، ومنهم من حوله في ظرف وجيز إلى برلماني وقيادي ووزير، وفي الوقت نفسه شن حملة ضد كل الذين يزاحمونه ويشوشون عليه “عمله” من الأعضاء غير المرغوب فيهم وأغلبهم كان على علاقة برابطة المستقبل الإسلامي المكون الثاني لحركة التوحيد والإصلاح من أمثال الراحل فريد الأنصاري صاحب كتاب “الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب.. انحراف استصنامي في الفكر والممارسة”، تماما كما فعل مع المعتقل الإسلامي السابق عبدالله العماري عندما أبعده ومن معه من هياكل الحزب، مستعينا في ذلك بكافة أنواع وأساليب التهييج والتحريض والهمز والغمز واللمز.. حتى بدت الحركة التي تزعم “أنها نموذج متميز لتطبيق مفهوم الشورى الإسلامي على المستوى الداخلي (…) من أقدر التنظيمات الإسلامية على تطبيق “الديموقراطية” بمفهومها السياسي! أعني: الديموقراطية بما هي قدرة سحرية خارقة على إيهام الجموع العامة، والمؤسسات الشورية، أن أعضاءها قد شاركوا، وأنهم قد عبروا، وأنهم قد رأوا، وهم ـ في الواقع ـ عكس ذلك حتى إن المشارك فيها لا يكاد يدرك أحقيقة هي أم خيال! وما رأيت في حياتي أشبه من شورى الإخوة ـ أو ديموقراطيتهم ـ بلعبة الخيط القمارية..”.
حتى المنظمات والمراكز والجمعيات التي لها علاقة بحزب العدالة والتنمية مثل، الاتحاد الوطني للشغل، ومنظمة التجديد الطلابي، وشبيبة العدالة والتنمية، ومنتدى الزهراء للمرأة المغربية، ومؤسسة بسمة للأعمال الاجتماعية، وجمعية السلام للأعمال الاجتماعية، ومركز الدراسات والأبحاث المعاصرة، ورابطة الأمل للطفولة المغربية، والمبادرة المغربية للدعم والنصرة، ومجلة الفرقان وغيرها، لم تسلم من اليد الطويلة لبنكيران وسارت هي الأخرى خاضعة ومتحكم فيها.
إن بنكيران ليس فقط كما قال المصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعضو البارز في البي جي دي في رسالته الأخيرة، “هو الحزب والحزب هو”، إنه أكثر من ذلك، فهو الآمر والناهي وهو الذي فكر وأنشأ وأسس ودبر ونسق وكون وعقد وفعل كل شيء، إنه كذلكم الجائع الذي تعطلت لديه كل الوظائف العضوية الأساسية، فبدأت العصارات الهاضمة الحامضية بالإفراز بشدة، فقرر التهام كل شيء.
ويعطي الراحل الدكتور فريد الأنصاري في كتابه السابق الذكر صورة تكاد تكون ناطقة لما آلت إليه الأوضاع فيقول “انطلقت الحركة الإسلامية تقسم ميراثها على أبنائها في حياتها، ولكن النتيجة أن كل التخصصات التي أُعلن عن ميلادها ماتت في مهدها، إلاّ التخصص السياسي، هو وحده نما وتضخم، واحتل كل المساحات الأخرى! فأكلت السباع كل شيء (…) وانسحبت التربية الإيمانية الدافئة من مجالس الإخوان، لصالح التربية السياسية القارسة، ثم انتصبت مرايا الأهواء والشهوات أمام الشباب، فتساقط الفراش على اللهيب، وكانت المأساة، وبدل أن تنتج الحركة الإسلامية هذه المرة المؤمنين الربانيين، بمحاضنها الخضراء، بدأت تفرخ عقارب خضراء، اندست بخضرتها المموّهة في خضرة العمل الإسلامي، فكان الإسلاميون أنفسهم هم أول من تعرض للسعاتها السامة”.
أمام هذا الانتشار المدبر والرغبة الجامحة، هل كان بنكيران مستعدا للرحيل ومغادرة رأس الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية لو لم يعلم بانتهاء صلاحيته؟ وهل كان مستعدا كذلك ليترك هذا الـ”كرسي” لو لم يكن عارفا بأن المرحلة لم تعد تستوعبه وأنه سقط من الأعين ولم يعد مرغوبا فيه؟
إن الذي أرسل بنكيران إلى سلة المهملات ليس نتيجة الاقتراع السري الذي أجري حول المادة 16 من القانون الأساسي للحزب كما يروج البعض لذلك، وليس مرافعة وزير الدولة المكلف بحقيبة حقوق الإنسان، المصطفى الرميد، التي ألقاها قبل التصويت على المادة المثيرة للجدل، أو مداخلة النائب البرلماني السابق عبدالعزيز أفتاتي، ولكن إرادة أخرى أكبر من كل ذلك وأكبر من إرادة الديمقراطية الداخلية الإخوانية، وأكبر حتى من إرادة الحزب نفسه.
والدليل على ذلك أن بنكيران المعني الأول بالقرار، قال ليلة التصويت على المادة المذكورة ومباشرة بعد خروجه من القاعة التي احتضنت المؤتمر، كلمة مقتضبة أمام الصحافة، إن “مهمة بنكيران في الحكومة انتهت بإعفائه من طرف صاحب الجلالة ومسؤوليته الآن كأمين عام للحزب انتهت بعد قرار المجلس الوطني”، وقال أيضا جوابا عن رضاه من عدمه على نتائج التصويت على قبول التعديل، والتي حملت 126 ضد و101 مع وامتناع 4، “نعم بنكيران راض”، وهي عبارات دالة ومعبرة توضح كل ما هو غريب من القول أو مبهم أو متشابه أو أنصاف كلام.