18 ديسمبر، 2024 8:24 م

أفول عصر المدرسة التقليديّة

أفول عصر المدرسة التقليديّة

بين عطلة صيفيّة تمدّدت، واستطالت، حتى بلغت خمسة شهور بدلا من ثلاثة! وبلبلة في الأذهان، وقلق على مستقبل الأبناء، وخوف من موجة ثانية من “كورونا”، نبدأ سنة دراسيّة جديدة تتراوح بين التدريس عن بُعد، والتعليم التقليدي (صار التعليم في الصفوف تقليديّا!)، واتّباع آليّة يطلق عليها ( التعليم المدمج)، بعد جدل طويل، تخلّلته تكهّنات، وسيناريوهات عديدة، ليتمّ حسمه بعد إغلاق المدارس أبوابها، لتفتحها مجدّدا، وتفتح معها نوافذها الإلكترونية، مديرة ظهرها لشهور مرّت ثقيلة، بين تكملة مناهج في العام الدراسي السابق، من خلال الدراسة عن بُعد، بدون طباشير، وسبورات، وصوت جرس، فيما واصل المعلمون إعطاء حصصهم، بعد أن حجز الطلّاب مقاعدهم في بيوتهم أمام شاشات حواسيبهم التي جلبت لهم، وهم في عقرها المعلومة، وصورة، وصوت المعلم، والعلم، عبر برامج خاصة، أو مواقع التواصل الاجتماعي، حسب الاتفاق الذي تمّ بينهم، وإدارات مدارسهم، حتى في فترات الامتحانات، والأساليب التي اعتمدتها تلك المدارس، فبعضها اشترط على الطلاب ارتداء الملابس المدرسيّة، ليكون الطالب متهيئا من الناحية النفسيّة لتلقي المعلومات، فيما اكتفى بعضها الآخر بإعطاء الدروس عن طريق تسجيل فيديوهات، أو رسائل صوتيّة، وحسب الظروف، وكل هذه العمليات تتم بمساعدة الأهل، وإشرافهم المباشر، والمستمرّ، ومن خلال حاسباتهم، الأمر الذي أحدث أزمات في بعض البيوت التي فيها عدد من الطلاب، فيما يحتاج ذووهم الحاسبات لإنجاز أعمالهم مع مراكز عملهم عن بُعد! ولو قرأنا الوضع الذي فرضته الجائحة دقّ جرس إنذار، بعيدا عن جرس المدرسة الذي حتما أن العناكب نسجت خيوطها بفمه! ويملي علينا طرح العديد من التساؤلات: ألا تحتاج المدرسة إلى تغيير في المفاهيم، والممارسات في العملية التربوية، التي أصبحت تقليدية؟ فالجيل الجديد ليس بحاجة إلى معلّمين ( اليوم قام الآباء بدورهم في التعليم إلى جانب التربية كما هو معروف) بالقدر نفسه الذي يفرض الحاجة إلى تغيير فلسفة التعليم، فقديما، كان الطالب يسافر من المكان الذي يعيش به قاصدا مفكّرا ، أو فيلسوفا، أو رجل علم، لأخذ العلم عنه، وهدفه العثور على المعلومة، واكتساب المهارة، وليس الحصول على درجة النجاح، والشهادة، كما هو اليوم التي تغيّرت الأهداف، والأولويّات، في دولنا العربية، وصارت الشهادة هي الهدف، وليس الحصول على المعرفة العلميّة، بينما يرى أفلاطون أستاذ أرسطو (المعلم الأول) أن الهدف من التعليم هو “معرفة كيفية العيش بشكل مناسب”، دون الاقتصار على العلوم، بل كيفية ترويض النفس، والتربية السليمة، والشجاعة، والاعتدال، والأخلاق، ليكونوا كفوئين لعيش حياة سعيدة، فيفيدون المجتمع، علما بأن افلاطون وضع نظاما للتعليم أقرّ به ليس بالضرورة أن يجتاز البعض جميع مراحل التعليم، بل يقف من لم يتمكّن من التأهيل لمرحلة أعلى عند حدّ معين، ويبحث عن الدور الذي يناسبه أكثر في حياته العملية، هذا الأمر لم يعد موجودا في نظامنا التعليمي، فغاب الهدف، وغابت الرغبة الذاتية للتعلم، وتطوير الذات، والمهارات، واستجدت أهداف أخرى تتركّز في الحصول على شهادة تضمن وظيفة مرموقة، وراتبا جيدا، ووجاهة اجتماعية ! ولنكن أكثر صراحة، ونسأل أنفسنا: هل أن المعارف التي اكتسبناها، واستفدنا منها في حياتنا العملية تلقّيناها من المدارس؟ أم عن طريق التجارب الحياتية، والاحتكاك بأشخاص؟ أظن أن الإجابة ستكون مخيبة لأساتذتنا في المدارس التي تعلمنا بها، وهذا لن يقلل من استفادتنا منهم، بل إننا في بعض الأحيان أخذنا من أساتذتنا خارج الفصول الدراسية أكثر مما أخذنا داخلها!!، نظرا لاكتظاظ الفصول التي درسنا فيها بوقت كانت بنايات المدارس في بلداننا العربية عموما، لا تستوعب عدد الطلاب، ولم يحل الدوام المزدوج المشكلة، فكنا نحاصر أساتذتنا بأسئلتنا الملحّة من لحظة خروجهم من الفصول حتى دخولهم غرفة الإدارة، وأحيانا لا نكف من طرح الأسئلة عليهم، بعد انتهاء الدوام، والجميع في طريقه للبيوت! واليوم صارت الفرصة مواتية لكي نعيد النظر بفلسفة التعليم، وما وصلت إليه في ظلّ الظروف الراهنة التي أعطتنا مؤشّرات واضحة تؤكّد أنّنا سنشهد قريبا أفول عصر المدرسة التقليديّة!.