18 ديسمبر، 2024 9:00 م

أفول عصر الزعامات لصالح مراكز التفكير

أفول عصر الزعامات لصالح مراكز التفكير

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تعرّضت الباحثة في جامعة هارفارد، نانسي كوهن، لأزمات حياتية قاتلة، ما حفزّها -كونها مؤرخة-، الى الخوض في قيادة الأزمات، معتبرة الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في صدارة القيادات العظيمة، في كفاحه ضد العبودية، والحرب الأهلية، على الرغم من مشاكله الشخصية، وكان أعظمها وفاة أبنه، وسخرية النخب من شخصيته.

 

كوهن تريد القول ان الأمة تنهض على أيدي زعماء لا يلتفتون الى آلامهم، بل الى معاناة الأمة، فيما تكبو الأمم حين تواجه الشعوب، الازمات، بفوضى الإدارة وانتعاش تعددية القرار.

 

في الفترات التي يتهدّد الأمم، عدم اليقين، والتوجس الجماعي، تنجب الأمم، الزعامات التي توصل الشعوب الى مستقر الأمان، واسترجاع الثقة بالنفس، بعد هزائم مادية ونفسية.

 

اقتنصت كوهن لقطة أخرى من قدرة شعبها على النهوض من اليأس، تجسّدها في فرانكلين روزفلت، الذي حشّد الشعب خلال الكساد العظيم.

 

أنقذ القادة الأقوياء، الذين ولّدتهم الأزمات، الأمم، وتمكنوا من التكّيف الاضطراري معها ثم إعادة توجيهها والاستفادة من التجارب، عبر وسائل متّسقة من التواصل المنتظم.

 

القادة الاستراتيجيون يؤطرون رهانات الأزمة، ويركزون على النتائج المحتملة، ويقضون الكثير من الوقت في التفكير أو التحدث عن أفضل أو أسوأ الاحتمالات، ويرسمون سيناريوهات ذات احتمالية أقل في الخسارة والضرر.

وبمعرفتهم لتجارب التاريخ والاستعانة بخبراء ومستشارين مهنيين، يدركون الى حد مقبول، النتائج المتوقعة الأكثر ترجيحًا، مجنّبين بلادهم، المغامرات الطائشة كتلك التي شهدها العراق في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، او تلك التي شهدتها ألمانيا، في اربعينياته.

 

أحد أساليب القيادة في الازمات، استعانة مركز القرار بمراكز البحوث والتفكير Think tanks، التي اصبحت

القوة الناعمة المؤثرة في دول أوربا والولايات المتحدة، والمؤسّسة للمجتمع الأكاديمي، والمهني، والقاعدة المعلوماتية

التي تبني آراء الزعماء، وخططهم وبرامجهم، الى الحد الذي استغنت فيه عن المستشارين، لانهم مهما كانت تجربتهم

ومهنيتهم، فانهم لن يكونوا بمستوى ما تقدمه هذه المراكز العملاقة من معلومات عميقة وأطروحات.

 

هذه الآلية في صناعة القرار، تبعد الزعماء عن الاستبداد، وتقطع الطريق على القرار الأحادي، وتبعد المزاجية في السياسات، وتجعل القادة الحقيقيين متوفرين، على الدوام سواء في خلال الازمات او في الظروف العادية.

 

لا يوجد انسان كُتب على شفرته الجينية انه سيكون قائدا، او زعيما عظيما، وربما سينتهي هذا المفهوم الى الابد، لان من يقود البلاد في هذا العصر، هي المعلوماتية العميقة والسريعة التي توفرها مراكز التفكير، التي تتعاقد معها الحكومات، وهي التي سوف تجعل من كل فرد زعيما او قائدا، طالما انه جلس على مقعد الرئاسة، وما عليه الا اثبات الجرأة في اتخاذ القرار.

 

في الواقع، ان جلّ رؤساء أمريكا على سبيل المثال لا الحصر، كانوا سبّاقين، في عدم الشعور بالثقة الزائدة في النفس،

والغرور السياسي والخيلاء التي تبعدهم عن الاستعانة بنصائح المستشارين التقليديين الذي ينتهي دورهم لصالح مراكز التفكير، اذ كان جورج واشنطن صاحب مشروع الحكومة الفدرالية، لصيق المفكرين السياسيين، ومستمع مذهل الى نصائحهم.

 

الكسندر هاميلتون، الذي تلقى تعليما متواضعا كونه يتيما فقيرا، وغير شرعي، استمد مشروعه الحاسم نحو وحدة أمريكا من استشارات أصحاب التجارب السياسية والفكرية.

 

 

بنجامين فرانكلين، الرجل الأول في عصر النهضة في أمريكا، كان مؤلفًا ماهرًا، وعالمًا، ومخترعًا ودبلوماسيًا، كان يحيط نفسه بنخب الفكر والسياسة والهندسة.

 

على عكس هؤلاء، كان الزعيم الألماني ادولف هتلر، على غرار الأنظمة الشمولية، قد حوّل مراكز رسم الاستراتيجيات، الى بؤر عقائدية تتحيز للنازية وتلبي طموحات الزعيم العظيم، فكانت نتائج المغامرات العسكرية، هزيمة مرّة لألمانيا.

 

ما يحتاجه القادة خلال الأزمات، ليس خطة استجابة آنية، بل سلوكيات وعقليات تمنعهم من المبالغة في رد الفعل تجاه التطورات.