8 مارس، 2024 9:06 ص
Search
Close this search box.

أفكار من دخان الأركيلة

Facebook
Twitter
LinkedIn

كان غارقا ذلك الفتى مستغرقا بكومة من الأفكار كالأحجار أثقلت كاهله فكأنه في بحر عميق ما له من قرار، استوقفه ألم في أسفل ظهره وصل الى بعض ساقه فتنبـّه أن القفص الذي لم يختره لروحه ـ أي جسده ـ له حق عليه، فلاحت له شجرة وحيدة كأنها أحست ببعض ألمه كانت تنتظره، فقبل دعوتها واستظل بظلها وجلس على بساط من عشب أخضر مطرز بما يخرج من بطون عصافير كانت تزقزق بين أغصانها. فقال في نفسه: فِعلُ الشجرة للخير أصيل، هي أم رؤوم لمن قصدها، لا تفرق بين مسرف وزاهد ولا فاجر ولا عابد، بل وتعطي جسدها حطبا لطالب الدفء.

كم كريمة أنت أيتها الشجرة!

هل عجز الانسان أن يكون مثلها؟

شعر الفتى بعد أن غفى ألم ظهره قليلا أنه مدين لها ولو بفكرة، قال في نفسه: ربما كان ريتشارد دوكنز البروفيسور الإنكليزي محقا في كتابه الجين الأناني عندما قال في فصله الأول أن مصدر الحياة وأصل الأشياء هوما ترجمته “حساء أول الزمان” فأصلي والشجرة واحد. ولكن بروفيسورنا هذا لم يقل لنا مَن طبخ الحساء ولا مِن أي محل بقالة جاءت مكونات تلك الشوربة العتيقة وكأنها قد طبخت نفسها. أعتذر الفتى في نفسه من الشجرة لفساد فكرة الرجل وقور المظهر عديم الجوهر، ثم تذكر قول الشيخ الأكبر والنور الأبهر والكبريت الأحمر ابن عربي في كتابه شجرة الكون في فصله الأول أيضا إذ قال:” فإني نظرت الى الكون وتكوينه، والى المكنون وتدوينه، فرأيتُ الكونَ كله شجرة وأصل نورها من حبة كُـنْ”، استحسنت الشجرة فكرة الفتى فارتعشت أغصانها كالعذراء في خدرها وأرسلت بارتعاشها نسمة صاحبتها فراشة حطت على كتفه الأيمن وهمست باُذنه قول ربها:” إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون”.

قام الفتى ليتابع مسيره إذ كان قد واعد بعضاً من زملاء الدراسة في مقهى البلدة القريب، نظر الى ساعته وأدرك أن هناك متسع من الوقت قبل أن يحين موعده وبدل أن يستقل سيارة أجرة من جنب الشجرة التي تسكن خد الطريق، فضل المشي رغم ألمه الذي خف قليلا.
صاحبنا هذا عنيد.
ثمًّ أتبع سببا، حتى إذا بلغَ حديقةَ البلدةِ العامة، تغيرت السماء وتبلل الهواء، فالطقس حيث يعيش يتقلب سريعا كتقلب مواقف سياسيي الصدفة في وطن تركه ولم يتركه،
فأبـرقت وأرعـدت
وزمجرت وهـلّلت
فـــأبردت وبــرّدت
وأثلَجــت فثـلّجــت
تَحَدَّثَت فأسكتت
جمعاَ غفيراَ شتَّتت
ريحاً شديـداً أرسلت
تمردت وباغتت
تدلعت تمنعت
برجا من رأسي طيرت
بالله ماذا فعلت
هذي السماء اشتعلت

وبعد أن تبلل الفتى حتى العظم، وثمل العشب من خمر السماء، وصل الى المقهى وقعد على كرسيه المعتاد وطلب أركيلته المعتادة، رن هاتفه الحمول عدت مرات في كل مرة يعتذر فيها أحد أصحابه عن الحضور، تعددت الأسباب والنتيجة واحدة. صاحبنا هذا لا يمل الوحدة، بل لا يراها كما يراها الناس، فهو جليس كتبه وصديق أفكاره، فتارة يتكلم مع أبي تمام وتارة يسمع من المتنبي ويقعد مع عميد الأدب العربي الذي حمل عليه بعض الشيء بعد أن نسف أشعار العرب قبل الإسلام في كتابه في الشعر الجاهلي، وتارة ينبهر برجل نباتي مثلي الجنس ملحد يدرس الفلسفة والتاريخ في جامعة القدس، كيف للنباتي أي يكتب مثل هذا؟ وكأن لطعام المرء شأن!
السلام على الثريد وعلى أصحاب الثريد، قالها في نفسه ساخرا.

بعد أن تلبدت سماء المقهى بغيمة صنعها بنفسه من دخان الأركيلة المقدس الذي تفوح منه رائحة العلك والقرفة، أمطرت عليه مشاهدا كانت قد علقت بذاكرته قبل أن يجف عظمه، تذكر مريضة كانت ترفض جنسها وتقول بأنها رجل وأن الله قد أخطأ إذ جعلها انثى، وليس الذكر كالأنثى، ما علينا فالكل حر في التعبير عن نفسه، ولأن الأمر كذلك قرر أن يمارس حرية التعبير هو أيضا على مبدأ حشر من الناس عيد، قرر أنه قد أصبح دبـاً بنيَّ اللون جاء من غابات سيبيريا وتعلم لغة القوم وقرر أن يمارس الطب، فالكل حر في التعبير عن نفسه، لكن المريضة ذات التسع عشرة ربيعا مرحب بها ولا أظن أن أحدا سوف يصفه بغير الجنون. الفعل واحد ورد الفعل مختلف.
أليس هذا نفاقا؟ أليست هذه تفاهة؟
التفاهة درجات ومنازل وما بين كل درجة ومنزلة مسيرة خمس مائة عام يقطعها الفارس على سرج سابح، وإذا أردنا حصرها والإحاطة بمشاهدها احتجنا الى جيش من الكتاب يسلمون الراية الى أولادهم وأولاد أولادهم الى ما شاء الله. التفاهة لا تحصر بأفراد بل تتعدى ذلك الى جماعات ومجتمعات ولربما تبادلت تلك الجماعات وصف غيرها بالتفاهة غير مدركة بأن تلك الصفة تنهشها حتى النخاع. يقول المرحوم العالم العامل رغم إعاقته ستيفن هوكنز المتوفى قبل أيام بأن الجهل ليس بأخطر الأشياء، وإنما وهم المعرفة يفوقه خطرا. كلام عميق قاله الرجل الذي اختلف عليه كثير من الناس بعد وفاته بمسألة شديدة الأهمية: هل يجوز الترحم عليه؟
أحمد الله أني رجل أصلع والا لكنت قد نتفت شعر رأسي شعرة شعرة وقدمتها على طبق من فضة الى محراب التفاهة الذي يتعبد فيه هؤلاء. أذلك ما يهمكم؟
على غير العادة، لم تكن مباراة لكرة القدم تحتل شاشة المقهى الكبيرة بل نشرة الأخبار: قامت روسيا باغتيال جاسوس وابنته عمل ضدها باستخدام غاز للأعصاب، وسوف تطلب بريطانيا من المجتمع الدولي بفرض عقوبات ضد روسيا. انتهى الخبر. هل فرضت عقوبات ضد ماينمار بعد أن أبادت مئات الآلاف عن بكرة أبيهم؟ إذا كانت النية تطبيق العدالة ومحاسبة الجاني لماذا يختلف رد الفعل إذا كان الفعل واحدا؟

أليس هذا نفاقا؟ أليست هذه تفاهة؟

توقفت غيمة الفتى التي اصطنعها لنفسه عن عملها فقد نفذ الجمر من رأس الأركيلة. فقال في نفسه ربما كنت تافها أيضا ولا أدري، ولربما كان شاعرنا محقا اذ قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا

قد ينظر المرء دون أن يبصر وقد يسمع دون أي يعي ما قيل له، ولكن وقفة مع النفس في مقام الصدق كفيلة أن تزيل الغشاوة عن قلبه.

طوبى لمن تطابق ظاهره وباطنه.

طوبى للغرباء.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب