لطالما استهوتني حياة العزلة المبجلة . ألأمر لا يخلو من مزاج متبدل . ألآخرون ليسوا دائما هم الجحيم . لديّ ” آخرون ” طيبون ، وآخرون مثل عقوبة زقنبوت عثمانية . أموت على العزلة ، خاصة تلك التي تحدث في شرائط الأفلام الأمريكانية ، المطهرة من القتل والتخدير والنهب ومصاصي ومصّاصات الدم – هي شرائط نادرة بقياس ناتج هوليود الهائل – . في أمنية العزلة ، أحب أن أنزل بقرية ، فيها نهر وجبل وواد ذو زرع ، وغابة ضخمة ، وعدد قليل من الأوادم ، واحدهم يعرف الثاني من سابع ظهر . ألقرية المصطفاة ، فيها حانات ومانات ، وأسطبلات خيل ، وروث بقر ، وملحمة ومسمكة ، ودكان عطارة ، صاحبه هندي ابن هندية . مخفر شرطة صغير ، شرطته ، شرطيات ، واحدتهن أنتجت ولدين وبنتين ، ويعيش هؤلاء ، صحبة الجد والجدة . ألجد يجمع الحطب ، والجدة تجيد خلق الخبز الساخن وشوربة العدس . هناك في المعتزل ، سأحب أن أمتلك مزرعة كروم . بعض قطاف العنب سيخصص للأكل والمزمزة ، وكثيره ، سيذهب الى معصرة الدار العتيقة ، ليصير نبيذاَ أحمر وأصفر وأبيض طيباَ ، فيه لذة لمن شرب وعصر وكدّ وكدح . أريد – أيضاَ وأيضاَ – أن يكون جدي هنا ، أنطوني كوين ، وخالتي ، ميريل ستريب ، وأبنة عمي التي تموت عليّ ، نيكول كيدمان . لا أريد شوفة روبرت دي نيرو ولا آل باتشينو ، ولا الكائنات الشريرة التي ظهرت في فلم ” العرّاب ” لأنهم سيسرقون الدار والبنك والكنيسة والمعصرة ، وسيقتلون صاحبة الحانة ، وسيحرقون محطة الوقود ، وسيصادق واحدهم ، معلّمة روضة الأطفال ، وسيجعلها تدمن شمّ الحشيش ، وفي ذروة تجلّ عظمى ، ستسمم المعلمة المنتشية ، خمسة من أغضاض الروضة ، وتذبح الفرّاشة ، وتنهب دخل الحانوت ، ثم تطلق رجليها للريح ، وبعد ثلاثة أيام وعصرية ، سيجد شريف المخفر ، جثتها ، منفوخة فوق مزبلة القرية ، فيأتيه المدد من شرطة واشنطن ، فتصير القرية المسالمة ، كومة جحائم . لا أود أن أرى خلقة أي واحد من هؤلاء الحثالة الأوغاد . أريدها عزلة أنسانية خالصة لوجه الله والكتابة . جدي أنطوني ، شقندحي وطيب وضحّاك ، ويعشق النبيذ الأحمر المطمور في قبو الدار ، والسيكار البلدي الغليظ . جدتي تتناقر معه طوال اليوم ، وتستحلفه بالرب القوي ، أن لا يفسد أحوال الفتى علي السوداني ، لكن جدي العذب ، عنيد سليل عناد ، اذ يسحلني أول كل مساء ، صوب حانة القرية الرحيمة . مرة ، سكرت سكرة كافرة ، فتوسلت جدي أنطوني ، وبست يده الخشنة ، عشر بوسات ، كي يؤدي قدامي والحانة ، رقصة زوربا اليوناني المدهشة . كرع جدي نصف البطلية ، كرعة واحدة ، وأدى رقصة زوربا المجيدة ، فقامت معه الحانة على حيلها ولم تقعد . جدّي أنطوني كوين ، تمادى في شفط النبيذ ، فأنولدت أعظم مفاجأة . قام جدي أنطوني على طوله الوسيم ، وطلب من القوم الساكرين ، أن يصنعوا نصف دائرة من نسوة وفحول . كنت أنا في يمينها ، وهو في شمالها ، فأنولدت رقصة الجوبي ، وتلتها بزخة جماعية ، وبعد أن استبد التعب بالقوم الراقصين ، صاروا الى مقاعدهم يزحفون ، لكن جدي ، قوي البنية والشكيمة ، قفز صوب مغني الحانة الأسود ، وخمط منه المايكرفون ، وشتله بباب فمه الطهور . سعل نصف سعلة ، وعبّ جوفه ببقيا كأس المغني المتعجب ، ثم شنّف آذان المنصتين الدائخين ، فتناوح وناح ، ومزج بين أطوار ومقامات وسلالم المحمداوي والصبا واللامي والمدمي والطويرجاوي والعلوانية والجاز ، وكانت الختمة بمدميّة زهور حسين : غريبة من بعد عينج يا يمه ، محتارة ابزماني ، ياهو اليرحم ابحالي يا يمه ، لو دهري رماني . بكى جدي أنطوني بدمع من دم – هنا راحت هيبة عمر المختار – ، وبكيت معه ، وأكتظت الحانة كلها بالثغيب ، فجاء صاحب الشرطة الطيب الآدمي بقبعته المنكّسة كراية عزاء ، ودسّني صحبة جدي المهدود ، بصدر الشوفرليت ، وبباب الدار ، عاونتنا جدتي العصبية على الولوج . كان سريري أيامها ، لصق سرير جدي . لم أعد أذكر من تلك الليلة اللذيذة ، غير جملة جدتي الراسخة بباب الغرفة ، تحت ضوء قنديل باهت جعلها تشبه زوجة ابليس : موت الكرفك علّوكي ، أنت وجدك أنطوني كوين !!
[email protected]
عمّان حتى الآن