22 نوفمبر، 2024 11:42 م
Search
Close this search box.

أغلبية سياسية أم إصلاح النظام ؟

أغلبية سياسية أم إصلاح النظام ؟

 تتصاعد الدعوات لإعتماد مبدأ الأغلبية السياسية على أساس من أغلبية برلمانية تشكّل الحكومة أو على أساس من أغلبية سياسية مكوناتية (عرقطائفية) لتشكيل الحكومة. يرى أصحاب هذا الطرح أنه الضامن للخروج من أزمة الحكم، أو مخرجاً لانسداد أفق العملية السياسية، أو تطوراً يسمح بانسابية عمل الدولة العراقية على مستوى قوانينها التشريعية وقراراتها التنفيذية، في حين يراه البعض توسيعاً لنفوذ كتلة سياسية على حساب أخرى أو ترسيخاً لحكم مكوّن مجتمعي على حساب المكونات الأخرى.

حقيقة الحقائق
   في حين تنقسم الكتل السياسية بين  مؤيد ورافض ومتحفظ تجاه مبدأ الأغلبية السياسية، تضيع في نفس الوقت حقيقة الحقائق المتصلة بامكانية اعتماد هذا المبدأ من عدمه، تلك الحقيقة المتمثلة بطبيعة النظام السياسي الذي تعتمده الدولة العراقية اليوم، فالسؤال الأهم: هل يسمح النظام السياسي الحالي باعتماد مبدأ الأغلبية السياسية أم لا؟ فإن كان لدينا نظام بسيط للدولة (مركزية أو لا مركزية) فيمكن اعتماد هذا المبدأ استناداً الى الديمقراطية التعددية، أما إن كان لدينا نظام دولة مركبة (فدرالية أو كونفدرالية) فلا مكان لمبدأ الأغلبية السياسية ضمن بنية الدولة وطريقة انبثاق وإدارة سلطاتها،.. إنها قضية تتصل بطبيعة النظام السياسي المعتمد قبل أي شيء آخر.

نظامنا السياسي
   رغم مرور قرابة العقد من عمر العملية السياسية العراقية فإنَّ طبيعة النظام السياسي الذي أنجبته لم تحسم بعد، وهي حقيقة على نخب الدولة الإعتراف بها ووضع الحلول لمعالجتها إن كان هناك نية حقيقية لحسم ملف أزمة الدولة.
   طبيعة نظامنا السياسي لم تحسم بعد، وهي وإن كانت أقرب الى نظام الدولة المركبة منه الى نظام الدولة البسيطة (جسد ذاك قانون إدارة الدولة وبعض مواد الدستور العراقي الدائم وإرادة التوافق لمعظم القوى السياسية العراقية الحاكمة) إلاّ أنه مع ذلك بقيت طبيعة النظام السياسي غير حاسمة بشكل نهائي الى هذه اللحظة، فالدولة العراقية الحالية هي دولة اتحادية مع أنَّ طبيعة انبثاق مؤسسات الحكم ونظام إدارتها يقومان على مبدأ الدولة البسيطة، وهي دولة لا مركزية في حين تعطي صلاحيات التأسيس الفدرالي دستورياً، وهي ديمقراطية تعددية على مستوى تأسيس سلطاتها في حين أنها تعترف بالتوازن والشراكة بين المكونات..الخ.
   هناك طبيعة سيالة غير صلدة وغير حاسمة لطبيعة النظام السياسي المعتمد منذ 2003م، وهذا هو السبب الرئيس المنتج لأزمات الدولة والذي ينتج حالة قلقة دائمة قابلة للتأويل والتوظيف السياسي، إنه السبب الذي يتلخص بشكل وطبيعة نظام الدولة المراد تأسيسها بعد 2003م، هل هي دولة فدرالية مركبة أم دولة بسيطة مركزية أو لا مركزية، أم دولة كونفدرالية،.. ولأنَّ سؤال الدولة هذا لم يحسم فإنَّ جميع قضايا الدولة غدت مورد خلاف ونزاع في الفهم والصلاحية والتأسيس، وليس هناك من مرجعية قادرة على حسم الخلاف لا الإتفاقات والتوافقات والصفقات ولا حتى الدستور الذي يعلن الجميع الإحتكام الى مواده،.. إنظر كيف أنَّ الطبيعة الرخوة للنظام تسمح بكل هذا الكم والنوع من الرؤى والتطبيقات المتناقضة، ففريق سياسي ما كان يطالب بتشكيل حكومة على أساس من استحقاق الأغلبية البرلمانية التي أمتلكها انتخابياً وهو نفسه اليوم يرفض فكرة مبدأ الأغلبية السياسية لأنه يرى فيه تكريساً لحكم مكوّن مجتمعي محدد أو توسيعاً لنفوذ كتلة سياسية معينة ويطالب بالشراكة! وفريق سياسي ما كان من مناصري تشكيل الفدراليات وهو اليوم لا يرى نضوجاً لتقبل الفكرة والتأسيس عليها مع أنها مبدأ دستوري! وفريق سياسي ما يقبل باللامركزية خارج حدوده ويمارس السلطة على وفق الأسس الكونفدرالية ضمن اعتراف فدرالي دستورياً!

حسم النظام
   لا يمكن اعتماد أي حل لأزمات الدولة دون حسم سؤالها المركزي المتصل بطبيعة نظام الدولة، هناك حالياً تمويهاً وترحيلاً للإجابة على هذا السؤال، من هنا فالشك وعدم الثقة هي السائدة في رصد النوايا وتفسير الممارسات التي يتصدى لها هذا الفريق السياسي أو ذاك، بل شهدت الأزمة الحالية تدهوراً حاداً عندما مارست الأطراف السياسية الإتهام والتسقيط والتخوين فيما يتصل بالصراع لكسب قضايا الدولة المختلف عليها.
   لا يمكن إدراك الحل لمعضلة تعارض الرؤى والإرادات والمشاريع المتصلة بقضايا الدولة دون انجاز الحل الواضح والحاسم المتعلق بطبيعة الدولة المراد تأسيسها والنظام السياسي المراد اعتماده، وهذه هي المهمة الأم التي يجب تدارسها وحسمها في خضم المداولات السياسية الهادفة اليوم للخروج من المأزق،.. وعلى أساس من الإتفاق على حل ما لطبيعة نظام الدولة يتم الإتفاق لاحقاً على إعادة صياغة الدستور والقوانين والأنظمة والمؤسسات بما يتفق والحل المعتمد، وإلاّ تبقى زيجة الدولة العراقية زيجة نشزة لا تعرف الإستقرار على صعيد بنيتها أو سياساتها ما دامت طبيعة النظام السياسي طبيعة رخوة سيالة غير صلدة وحاسمة.

الأنظمة المتاحة
   مع استبعاد صيغة الدولة المركزية البسيطة التي ثبت فشلها، تبقى نماذج الدولة البسيطة اللامركزية (الديمقراطية تحديداً) والدولة المركبة الفدرالية والدولة الإتحادية الكونفدرالية هي النماذج الممكن اعتمادها لحسم طبيعة شكل الدولة ونظامها السياسي،.. والأكيد أنَّ لكل نظام سياسي مزاياه وعيوبه، والأكيد أيضاً أنَّ هناك اشتراطات موضوعية تحتم على صناع الدولة أخذها بنظر الإعتبار حين اعتماد صيغة محددة لشكل النظام وطبيعة الدولة وإلاّ ستنهار الدولة وتعم الفوضى فيما لو لم تتوافر عناصر الحياة للصيغة المعتمدة داخلياً وخارجيا.

النظام الديمقراطي اللامركزي
   يقوم النظام الديمقراطي اللامركزي على مبدأ اللامركزية الإدارية المنتخبة لإدارة شؤون الدولة البسيطة. وقد يتطور هذا النظام الى لا مركزية سياسية تزاوج بين الإعتراف السياسي واعطاء الصلاحيات التشريعية والقضائية المتطورة لكافة أقاليم الدولة التي تتمتع بتجانس عرقي أو إثني (الحكم الذاتي) مع حكم مركزي منتخب ممثل للدولة.

النظام الفدرالي
   يعتمد النظام الفدرالي على النظام السياسي التوافقي الذي يقوم على مبدأ الديمقراطية التوافقية الهادفة لحل اشكالية السلطة في المجتمعات غير المتجانسة والتي تعاني انقساماً إثنياً أو قومياً أو طائفياً حاداً على مستوى الهوية والمصالح، فالديمقراطية التوافقية نظرية تأسيس وحكم للدولة المركّبة التي تتلخص فلسفتها باعطاء البعد السيادي للهويات العرقية الطائفية الإثنية على صعيد الإعتراف والممارسة داخل إطار الدولة، اعتراف سياسي سيادي بهوية ومصالح وسلطات جميع مكونات الدولة.
   يستند النظام السياسي التوافقي على جوهر وآلية، جوهره اعتبار الدولة مجموع مكونات مجتمعية ذات هويات سياسية ومصالحية مستقلة لابد وأن تتقاسم الدولة كسلطة وثروة واعتراف، وآليته تتلخص باعتماد مبادىء الحكم التوافقي لممثلي الأعراق والطوائف على أساس من التوافق الإرضائي وتسليح كل طرف بفيتو النقض لضمان التوازن بين الأعراق والطوائف في إدارة الدولة. على هذا الأساس فالدولة الفدرالية تتبنى مبدأ شراكة المكونات المتساوية لا شراكة المواطنين الأفراد، وهي دولة اتحاد أقاليم تمنح المركز سلطات الإدارة العامة للدولة لا العكس كما في الدولة اللامركزية.

النظام الكونفدرالي
   النظام الكونفدرالي هو اتحاد دول مستقلة ناجزة الإستقلال، إذ تتوحد مجموعة دول برابطة معترف بها دولياً في إطار من الإتفاقات السياسية أو الإقتصادية أو العسكرية لتحقيق المصالح، وتتطور بعض الأحايين صيغ الإتحاد لتصوغ دستوراً مشتركاً ينظم العلاقة بين الدول الإتحادية ذات السيادة التامة داخلياً وخارجياً.

مهمة الإختيار
   يمكن لنخب العملية السياسية اعتماد إحدى الصيغ التي تتناسب والواقع العراقي سواء كانت الصيغة اللامركزية المتطورة أو الفدرالية أو الكونفدرالية، ثم يصار الى عملية إصلاح كبرى لأسس النظام السياسي دستورياً وقانونياً ومؤسساتياً بما يتناسب والصيغة المعتمدة.
   هي مهمة اختيار لشكل وطبيعة نظام الدولة قبل أية مهمة أخرى، أما اقتراح الحلول دون معالجة قضية الدولة الأم المتمثلة بطبيعتها ونظامها وهويتها فيعتبر ضرباً من الوهم الذي لا يغني عن الحقيقة شيئا،.. أملي أن يصار الى اختيار الصيغة التي تنتج أمة ودولة وطنية مدنية موحدة بغض النظر عن شكل نظامها الإداري، فما زلت أرى امكانية إنتاج هذه الأمة وهذه الدولة التي هي حاجة عراقية واقليمية ودولية في آن واحد.
[email protected]

أحدث المقالات