الخبر التالي نشرته العديد من وسائل الإعلام المحلية قبل أيام ويثير الجدل والتساؤل بالفعل ، إذ جاء فيه :
قررت وزارة النفط تخفيض سعر لتر البنزين الممتاز عالي الاوكتاين إلى 750 دينار للتر الواحد ، وقال المتحدث الرسمي للوزارة عاصم جهاد إن قرار تخفيض سعر اللتر الواحد من البنزين عالي الاوكتاين من 950 دينار إلى 750 دينار جاء نتيجة انخفاض الكلف الاستيرادية وحرصا من الوزارة على استفادة شريحة كبيرة من المواطنين من جودة ونوعية المشتقات النفطية والخدمات المقدمة لهم بأسعار مناسبة ، وأضاف جهاد أن محطات تعبئة الوقود المنتشرة في بغداد والمحافظات تقوم بتجهيز المواطنين بالتسعيرة الجديدة اعتبارا من 17كانون الثاني الماضي .
ووجه الغرابة في هذا الخبر ، إن بلدنا المعروف بتعدد خيراته وموارده من الزراعة والصناعة والسياحة والثروات الحيوانية والأنهار والموقع والأثير ، لم يكتف بالاعتماد على النفط الخام في تمويل 95% من نفقاته بل انه اخذ دور المستورد لكل شيء بما في ذلك الغذاء والدواء والأجهزة والمعدات والرفاهية ، والأكثر من ذلك انه تحول إلى مستورد للمنتجات النفطية ليقوم بتسويقها وبيعها للمواطنين بأسعار تشجيعية ، فبلد النفط لا يستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي من المنتجات النفطية لأنه يستورد البنزين المحسن وينتج البنزين العادي والبنزين العادي المنتج محليا لا يغطي الحاجة المحلية للاستهلاك كما انه يستورد الغاز السائل رغم إن كميات كبيرة من الغاز المصاحب تحرق كل يوم على أمل أن يتم الاستفادة منه لاحقا من قبل شركات عقود ( الخدمة ) العاملة في العراق ، كما نستورد الكاز والنفط الأبيض وزيت المحركات ومنتجات نفطية أخرى كان من الممكن إنتاجها في الداخل ، ومن نستورد منهم هذه المنتجات ليسوا أحسن حالا من العراق من حيث توفر الخبرات الوطنية والموارد البشرية القادرة على الأداء والابتكار والإبداع وبعضهم نصدر لهم النفط الخام ، وكان بالإمكان أن نحقق أضعاف الإيرادات ( لو ) إننا قمنا بتطوير الصناعة النفطية في الداخل لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المشتقات النفطية بدلا من الاستيراد من الخارج ، والقيام بتنويع صادراتنا النفطية بين نفط خام ومنتجات نفطية فالإيرادات المتحققة من تصدير المنتجات النفطية أكثر من إيرادات بيع النفط الخام بكثير .
والسؤال الذي ربما يتبادر إلى الذهن هو لماذا لم نطور صناعة المنتجات النفطية ؟ ، ويدعي البعض بان التوسع بهذه الصناعة يحتاج إلى أسواق ومنافذ للتصدير وهناك منافسة عالمية بهذا الخصوص مما يجعل الاستثمار الكبير في هذا القطاع غير مجدي من الناحية العملية ، وإذا كان الدخول إلى الأسواق العالمية كمنافسين مسالة معقدة على حد المتقولين فقد كان من الأجدر أن نتوسع بهذه الصناعة لغرض تحقيق الاكتفاء الذاتي على الاقل ، فبلدنا يستهلك كميات كبيرة من البنزين لاستخدامات ملايين السيارات والمولدات المنزلية في الداخل كما إننا بحاجة إلى الغاز السائل وأنواع الوقود الأخرى لتشغيل محطات الكهرباء والمزارع والصناعة بمختلف أنواعها والاستخدامات المنزلية ، ولعل واحدة من أسباب التدهور الزراعي والصناعي في الداخل هو ارتفاع أسعار الوقود فالكاز التجاري تبيعه شركات وزارة النفط بسعر 750 دينار لكل لتر وان السعر غير التجاري هو 400 دينار والأسعار السائدة في الأسواق للكاز حاليا لا تقل عن 500 دينار لكل لتر ، وعودة إلى التساؤل نفسه حول أسباب عدم إقامة مشاريع لصناعة المنتجات النفطية لغرض تغطية الطلب المحلي فان من يتحمل كامل المسؤولية هم من تولوا زمام الأمور في القطاع النفطي والجهات ذات العلاقة ، فقد أشبعونا وعودا خلال السنوات الماضية بأنهم ماضون في تطوير هذه الصناعة وبما يحقق الاكتفاء على مستوى المحافظات والسعي لتطوير مصافي البصرة والدورة وبيجي لغرض التصدير ولكنها مجرد وعود لم يتحقق منها شيئا .
وبمناسبة الحديث عن الخبر المتعلق ببيع البنزين المستورد المحسن بأسعار مخفضة لعموم المواطنين ومن خلال عدة منافذ للتوزيع في بغداد ، فان قناة العراقية الفضائية قد استضافت في إحدى نشراتها الإخبارية الرئيسية المتحدث الرسمي لوزارة نفطنا العراقي لشرح مسوغات تخفيض سعر اللتر إلى 750 دينار ، فذكر الضيف إن الدولة التي نستورد منها البنزين قامت بتخفيض السعر بسبب انخفاض أسعار النفط الخام وبعد دراسة الموضوع في الوزارة تقرر تخفيض السعر لتشجيع استخدامه من قبل شرائح أخرى من أصحاب السيارات الحديثة لان هذه النوعية ملائمة لها وبشكل سيؤدي إلى زيادة الأرباح لتحقيق أعلى الإيرادات للشركات المعنية في الوزارة وتحويل جزء من ( الأرباح ) إلى خزينة الدولة لدعمها في هذا الظرف المالي الصعب ، وهو تصريح ترك العديد من التساؤلات لدى الجمهور عن أسباب عدم تخفيض المنتجات الأخرى التي تصنع من النفط الذي انخفضت أسعاره عالميا ، كما انه ينم عن تحقيق أهداف تتعلق بترويج هذا المنتج لتعظيم الأرباح ( ولم يذكر الدولة التي يستورد منها المنتوج ) ، وعند سؤاله عن أسباب عدم إنتاج هذا النوع في الداخل أجاب بأنه يحتاج إلى تقنية عالية غير متوفرة في الوقت الحاضر ، وبشكل يدل أيضا على إننا لم نبدأ بولوج هذا النوع من المنتج النفطي لحد الآن مما يشير إلى حجم الفجوة في مجال الصناعات النفطية بين ما هو موجود في العالم وما يتم تبنيه في العراق ، ونذكر إن العراق تحول إلى بلد نفطي يعتمد على الإيرادات النفطية لتمويل 95%من النفقات في كل سنة مالية ليس منذ سنة أو سنتين وإنما منذ عقود بمعنى انه مدمن على النفط كأساس للدخل ولم يطور صناعاته النفطية بعد .
وإذا كانت الجهات المعنية بإدارة الدولة في العراق قد اختارت أن تكون معتمدة على النفط دون غيره من الموارد لغرض تحقيق وتعظيم الدخل القومي ، فان القيام باستيراد المنتجات النفطية والترويج لها والتعويل على أرباحها لتحقيق المردودات يعد مؤشرا واضحا على فشل هذا التوجه ، فمن يريد التعويل على جانب معين من الموارد عليه تنميته لتعظيم الموارد واستخدام أحدث التقنيات وبما يجعل الدولة شبه محتكرة أو متحكمة أو متفوقة للقطاع الذي اختارته على مستوى الاقليم أو المنطقة أو العالم ، فما نشهده من تخبط وتذبذب في الإنتاج والتصدير والقصور في طاقات النقل والخزن وإنفاق المليارات سنويا في استيراد المنتجات النفطية وهدر مليارات أخرى في حرق الغاز المصاحب والسائل دون توجيهه لمحطات الكهرباء أو غيرها من الاستخدامات على الأقل وبيع النفط بأسعار تشجيعية تقل عن السائدة في الأسواق العالمية ، يدل إننا بصدد عدم تبني نمطا محددا في تكوين الناتج المحلي وهو ما يعرضنا للازمات تلو الازمات ويجعل اقتصادنا مصابا بأمراض مزمنة ، وقد كشف الانخفاض الحالي لأسعار النفط في الأسواق العالمية هذه العيوب التي لا يمكن عزلها عن حالات اللامبالاة أو الإهمال ، إذ لا بد من التدقيق في أسباب ومسوغات الوصول إلى هذه النتائج المأساوية من خلال تحليل موضوعي لا يعتمد بشكل رئيسي على نظرية المؤامرة من قبل الغير ، وإنما من خلال الاعتماد على الحقائق والأرقام وربطها بالتسلسل الزمني والأحداث وعلاقتها بانعدام الشفافية والفساد ، وهي أمنية لا يمكن لها أن تتحقق بما يثلج صدور المخلصين لان هذا المنهج لا يمكن اعتماده إلا عندما تكون هناك دولة مؤسسات وصانعة قرارات بالمعنى الصحيح .