(كيوشي أميميا) ، مهندس ياباني يعمل في شركة (هيتاشي Hitachi) اليابانية المشهورة للصناعات الثقيلة ، كان في جولة سياحية في أرجاء (كمبوديا) ، فتأثر جدا لرؤية عدد كبير من المعاقين وقد بُترت أطرافهم ، خصوصا من الأطفال ، فهاله مما رأى ، هكذا دفعته انسانيته وحركت فضوله للسؤال عن السبب ، فهذا الرجل ، رجل علم وبحوث وليس سياسيا ، لكنه ليس متبلد المشاعر كسياسينا الذي أهمل صُلب عمله ، ولا يمتلك أي مهارة أو مَلَكة سوى أساليب النهب ! ، فعرف أن السبب ملايين الألغام التي زرعها نظام (الخمير الحمر Khmers Rouges) الدموي الذي كان يرأسه الدكتاتور (بول بوت) في السبعينيات ، ومن مخلفات الحرب بما فيها القنابل غير المنفلقة ، وأن هذه الألغام حصدت من الارواح ايضا ما حصدت ، خصوصا القرويون الذين يعيشون في تماس مباشر مع هذه الألغام ، والتي تشكل 40% من مساحة البلد !.
فعاد الى بلده متعجبا من أهمال المجتمع الدولي لهذا الخطر الكبير ، فقرر أن يعمل شيئا لمساعدة هذا البلد ، فقرر أن يغير هذا (المُنكر) بيده لا بلسانه ولا بقلبه ! ، بسبب يأسه من (رحمة ) هذا المجتمع الدولي ، فتوجه الى مختبره ومرسمه لتصميم آلية ثقيلة لتفجير هذه الألغام والنجاة من شرّها ، وهو يرى أدوات بدائية وبطيئة للغاية في الكشف عنها ونزعها وتفجيرها ، وما يرافق ذلك من خطورة على الشخص المنقب عنها ، والذي غالبا ما يكون من المتطوعين .
قام بتصميم وصُنع آلية ، هي عبارة عن حفّار بذراع طويل ينتهي بأسطوانة عرضية مليئة بالأسنان التي تشبه الأزاميل وتدور بسرعة لنزع وتفجير الألغام في نفس الوقت ، وبماله الخاص ، اكرر ، بماله الخاص ! ، قام بشحنها الى كمبوديا ، وكان هو من يعمل عليها معتمرا خوذته البيضاء ، وقد نجحت هذه الآلية الى حد كبير ، لكن بعض الألغام كانت من القوة ، بحيث كسرت الأسطوانة ونزعت أسنانها .
أراد الرجل تطويرها ، لكن ماله نفذ ولم يعد يكفيه ، فتبرع له الكمبوديون ، ففكر في تحويل الأرض المليئة بالأدغال والألغام ، الى أرض صالحة للزراعة ، فصنع آلية مدرعة ذات اسطوانة وأسنان بسبيكة معدنية هو مَن طورها ، تقاوم أشد الأنفجارات يحملها ذراع أمامها ، ووضع في الخلف محراثا ، أي أنها تفجر للألغام وتنزع الأدغال لكشف وجه التربة ، ومحراث ومَبذرة للبذور في نفس الوقت ! ، ولا تزال تعمل وقد نجحت في اكتساح مئات الآلاف من الألغام بوقت قياسي ، هكذا تحولت لعنة هذه الارض الخطرة الى سلام أخضر !.
رجل واحد ، ربما كان بوذيّا أو وثنيا ، أو بلا ديانة ، كان مختبرا ومعملا وباحثا بحد ذاته وبغاية الأبداع ! ، قطعا الخلل ليس في الدين ، بل على العكس ، فلدينا من التراث الأنساني الذي جاء به ديننا الحنيف ، من أحترام للحياة ، والتعامل اللين ، والتسامح ، والتكافل ، والعلم ، والرقي الانساني الى أقصى الدرجات ، ما يحسدنا العالم عليه ، الا أنها بقيت حبيسة الكتب ! ، ولكن الخلل في من سُمّى بأسم هذا الدين ، قال تعالى في سورة (البقرة) (مَثَل الذين حُمّلوا التوراة ثم لم يَحملوها ، كمثل الحمار يحمِلُ أسفارا) ، فما أبلغ هذه الآية ، وأنا أراها تنطبق على الكثير ، ولكن بأستبدال (التوراة) في الآية الى القرآن ، (والأسفار) الى سُوَرْ !.
رجل واحد ، قام بأحداث هذا الفرق الهائل ، ونحن نتعرض للأبادة بشكل لا يُقارَن مع الكمبوديين ، فأين نحن من فقراء كمبوديا ؟ فهم مَن تبرّع له بالمال ، على عكسنا ، فلو زار العراق فلن يستطيع التجول بمفرده ، وسننظر اليه على أنه بقرة حلوب ، وسيتعرّض للمساومة (لأخذ المقسوم) أو الأختطاف لأجل الفدية ! ، بل من المؤكّد أنه سيُقاضى عشائريا لأنه تجاوز على أراضيهم المحرمة عليهم أصلا بسبب امتلائها بالالغام التي أفرزتها الحروب الكثيرة ، وٳن كانت أراضٍ مهملة تتبرّز فيها بنات آوى ! ، فقراء كمبوديا على الأقل لديهم حس بالمواطنة وأحترام القانون والعمل لأجل الصالح العام الغائب عن بالنا ، فتفوقوا أشواطا على عقلياتنا !، وقد خلت كل وزاراتنا بل دولتنا بأكملها من شخص يملك معشار ضمير وأبداع وأمانة هذا الرجل ! ، كان المال لدينا وفيرا ، لكنه ضاع مع ضياع الضمير ، بربكم ، هل ملأ هذا الرجل الدنيا بخطابات سياسية أم دينية لا نفع منها الا المتاجرة ، كسياسيينا ؟ ، لا ، لم يفعل ، لقد فعل دون قول ، وبعيدا كل البعد عن الأضواء ، فهل هنالك وجه مقارنة بين خوذة هذا الرجل ، وجميع عمائم وأفندية العملية السياسية ؟! ، فعدوّنا المتأسلم ، يصنع الموتُ لنا دائبا ، وليس ازاؤه ، رجل واحد في كل الدولة العراقية ، يصنع الحياة ، كالسيد (كيوشي أميميا) ! .