هل كانت مصادفة أن يسلم الكاتب والمخرج المسرحي قاسم مطرود الروح إلى بارئها في لندن عشية انطلاق فعاليات مهرجان المسرح الخليجي الذي احتضنته صلالة وينقل جثمانه إلى بغداد ويشيع بمراسم رسمية مهيبة ويدفن والمهرجان على وشك أن يسدل الستار على فعالياته !.
الموجع أن الكاتب والفنان الراحل، ورغم تردي حالته الصحية، كان يمنّي النفس في المشاركة به، وليس كل ما يتمنى المرء يدركه، وكيف يدرك المرء أمانيه ورياح الأيام تجري بما لا تشتهي سفنه السائرة في بحر لا قرار له نحو المجهول !!.
وحين أبلغته بصعوبة ذلك في ظل أوضاعه الصحية الصعبة طلب مني تزويده بأخبار المهرجان أولا بأول لنشرها في صحيفته الإلكترونية “مسرحيون” كما اعتاد في كل مهرجان مسرحي، ولكن هيهات !
لقد ناقشت أعمال قاسم مطرود الكثير من القضايا التي تتصل بتطلع الإنسان الى عالم أفضل والتوق الى الجمال والحرية , تقول زوجته إن آخر جملة همس بها “راح أروح للحرية” وحين سألته “الى أين؟” سكت ولم يرد ودخل في غيبوبة
ولا أدري إن كان المشاركون بالمهرجان وقفوا دقيقة حداد أو استذكروا هذا المسرحي العربي الذي رفد المسرح الخليجي بالعديد من النصوص التي مثلت، ويكفي أن المسرح العماني قدم له ثلاثة أعمال شارك بها في مهرجانات محلية وعربية وهي “رثاء الفجر” ليوسف البلوشي، و”جسدي مدن وخرائط” للمخرج عبدالغفور البلوشي وشارك بها في مهرجان دمشق المسرحي، و”مجرد نفايات” للمخرج خالد العامري وقدمها في الرياض ولندن وباريس ومسقط.
وكان قد زارالسلطنة العام 2006 م مشاركا في فعاليات مهرجان المسرح العماني الثاني حين عرضت له فرقة مزون مسرحيته “رثاء الفجر”، في تلك الزيارة رددنا معا، في أكثر من مناسبة، كلمات أغنية “ياس خضر”
“مرينه بيكم حمد واحنه بقطار الليل
واسمعنه دك اكهوه وشمينه ريحة هيل”.
وحين شربنا القهوة في مكتب صاحب السمو السيد هيثم بن طارق عند استقباله لنا ضمن المشاركين، جلس مطرود على يميني فيما جلست الفنانة ليلى طاهر على يساري فهمس بأذني “للقهوة العمانية طعم يستمد نكهته من طيبة أهل عمان” مستذكرا احتفاء فرقة مزون به واستضافته في الرستاق لدرجة أنه نسى أن يأخذ دواءه الذي اعتاد عليه منذ اجرائه العملية الأولى في الدماغ لاستئصال ورم خبيث ما لبث أن عاد ثانية ليقضي عليه،
شربنا القهوة وتحدثنا عن هموم المسرح وقضاياه المتعددة، ونقلنا لسموه طموحات المسرحيين العمانيين والعرب ثم ودعناه، فغادرنا مبنى وزارة التراث والثقافة، ممتلئين بالسعادة والتفاؤل والأمل بحراك مسرحي عماني لاسيما ونحن كنا نعيش أعراس مسقط عاصمة الثقافة العربية.
وحين أخذته مع صديقي الشاعر حسن المطروشي في جولة في مسقط ضغط على زر تشغيل مسجل السيارة فانطلق صوت ياس خضر المعروف بالشجن وهو يردد كلمات رائعة مظفر النواب المنشورة في ديوانه “للريل وحمد”:
“آنه ارد الوك الحمد .. ما لوكن لغيره
يجفّلني برد الصبح ..
وتلجلج الليره
يا ريل باول زغرنه…
لعبنه طفيره “
حينها فوجئ بحب المطروشي لأغاني ياس خضر قلت له: لا تندهش، ستسمع بعد قليل أغاني فاضل عواد وحسين نعمة التي يحتفظ بها المطروشي جنباً إلى جنب مع أغاني محمد عبده، وعلى صوت إيقاع “مرينه بيكم حمد” صفق قاسم مطرود وغنى، كان المطروشي يبتسم وهو يرانا نردد مع ياس خضر وهو يخاطب “الريل”:
“ياريل صيح بقهر
صيحة عشك ياليل
هودر هواكم ولك
حدر السنابل كطا
يا ريل
طلعوا دغش…
والعشق جذابي
دك بيّه كل العمر…
ما يطفه عطابي
تتوالف ويه الدرب
وترابك .. ترابي
وهودر هواهم
ولك..
حدر السنابل كطه”.
سألني المطروشي عن المقصود بـ”الريل”، قلت له القطار بالعامية العراقية
وماذا عن “كطه”؟
قلت له: “إنه يقصد طائر القطاة” الذي ورد في قصيدة المنخل اليشكري:
“ودفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير
ولثمُتهـــا فتنفست كتنفس الظبي الغرير
فدنت وقالــت يا منخـل ما بجسمك من حرور
إلى قوله:
وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري”.
والقطاة واحدة القطا كما جاء في قاموس المعاني “وهو نوعٌ من اليمام يُؤْثِرُ الحياةَ في الصحراء، ويطير جماعات، ويقطع مسافات شاسعة، وبيضه مُرقَّط. والجمع: قَطًا، وقَطَوَات، وقَطَيَات”.
لكن النواب يشبه الصدر بالقطا والظفائر المنسدلة عليه بالسنابل في تورية واضحة وهو أسلوب معروف في الشعر لجأ إليه الشعراء لتغطية المعاني الظاهرة.
أوصلنا مطرود إلى فندق “راديسون ساس” وظلت الأغنية مستمرة مثل عطائه المسرحي الذي خلفه ليكون شاهدا عليه وظل ياس خضر يردد:
“مرينه بيكم حمد”.