بعد عقود من الحكم الدكتاتوري وتسلط القائد الأوحد وتفرد الحزب الواحد بالجمل بما حمل، وبعد أن عاش بعض ساستنا الحاليين تلك الحقبة بما احتوته من سلبيات، مقابل علمهم بالإيجابيات المطلوبة بعد زوال تلك الحقبة، تتعالى اليوم صيحات بين الحين والآخر مطالبة بما نص عليه الدستور تحت مظلة الفدرالية، وهي مطالبات غاية في الروعة لو أخذت على محمل الجد وطبقت (على حب الله) لاستحال حال محافظاتنا الى مايوازي حال ولايات مشيغان وكالفورنيا وفلوريدا التي تظللها الفدرالية أيضا. تلك المطالبات تتمثل في نقل صلاحيات بعض الوزارات الى الحكومات المحلية في المحافظات، وهذا الأمر سيتيح المجال لكثير من المبادرات لو أحسن استخدامها مكانيا وزمانيا ووظفت لخدمة المحافظات وسكانها، وحينها تجتاز الحكومة المركزية كثيرا من العقبات والمشاكل، ويصير أمامها متسع من الوقت وفائض من الجهد، يسهم بالتفاتها الى متطلبات البلد الجوهرية الداخلية والخارجية، وهو عين الطلب في الوقت الراهن.
لقد نص الدستور العراقي لسنة 2005 في المادة 122/ أولا على الآتي؛ “تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية وينظم ذلك بقانون”. فالدستور تبنى نظامي الفدرالية واللامركزية الإدارية في وقت واحد، وهذا من شأنه يحث رئاسات مجالس المحافظات على تركيز اهتمامهم بمفاصل محافظاتهم، وهم الأدرى والأكثر علما بما يدور فيها، ومايتطلب عمله ومدى احتياجات قاطنيها إداريا، من باب أن “أهل مكة أدرى بشعابها”. وعلى هذا فالدعوات التي ترفع بصيغة رسمية الى مجلس النواب، او تلك التي يصرح بها مسؤولو المحافظات من خلال وسائل الإعلام باستحصال صلاحيات أوسع في إداراة محافظاتهم، هي في حقيقة الأمر الخطوة الأولى في سلم الرقي المدني في إدارة المحافظة وبالتالي رقي الدولة بكاملها، ولكن..! كما أسلفت على أن تكون الإدارة المحلية خالية من التحيز بالصلاحيات، والجموح بها الى مايصب في جيوب شخوص معينين، إذ سيكون حينها “حاميها حراميها”، وستكون الفدرالية تشريعا ومسوغا ومبررا للسرقات.. وسقفا يغطي الفساد بأنواعه، بعد أن تتحقق المناقلة في المصالح الخاصة من لدن الحكومة المركزية الى أحضان المجالس المحلية، وساعتها يضيع اللوم والعذل والعتب واللحى بين “حانه ومانه”.
إن في تحقيق صلاحيات أوسع لإدارة المحافظات غير المنتظمة بإقليم وفق القانون، هو السبيل الوحيد حاليا للنهوض بها مجتمعة -بعد أن يتم نهوضها فرادى- من خلال تمتعها بثمار تطبيق مبدأ اللامركزية الإدارية، هذا المبدأ الذي مافتئ يتنقل بين رفض وطعن وتقييد وإرجاء تحت قبة برلماننا، فلو تمعن النواب ورئاسة مجلسهم فيه جيدا، لتيقنوا أنه سيغني المحافظات عن المطالبة بإقامة إقليم، اوالحلم بالاستقلال وإن كان هذا حقا من حقوقها كما نص عليه الدستور. كما أن اللامركزية الإدارية هي مبدأ منصوص عليه في دستور عام 2005 وهي مفتاح حلول كثيرة، لاسيما وإن مجالس المحافظات تعاني كثيرا من وضع الحكومة المركزية يدها على كثير من القرارات والمشاريع الواقعة ضمن مسؤولية المحافظات، فبدل انشغال المركز بكل كبيرة وصغيرة في البلاد برمتها، يكون الأحرى توزيعها على المحافظات وفق إطار قانوني، وضوابط مدروسة تحت رقابة ومتابعة مركزية، وهي بالتالي كما قيل؛ “أمطري حيث شئت.. فخراجك لي”.