كنت تلميذا في مدرسة الكاظمي الابتدائية في مدينة الناصرية ، وكانت المكتبة المدرسية عبارة عن دولابين خشبيين وضعا في أدارة المدرسة ، وفي اليوم الذي يقرر فيه معلم العربية في الخامس الابتدائي الاستاذ المرحوم عبد الرضا نعمة أن يكون درسا لقراءة قصة ، يرسلني انا لأجلب قصصاً بعدد طلاب الصف وأوزعها على التلاميذ واجمعها في الربع الاخير حيث يختار منا تلاميذا يتحدثون عن مغزى القصة التي قرأوها.
وكنت أحرص حينها أن تكون القصص التي اقرأها التي من تأليف محمد عطية الابرشي ، هذا الفيلسوف والحكواتي والمفكر المصري المولود عام 1897 بقرية العزيزية ــ محافظة الشرقية ، والذي أدين لسحر قصصه بالفضل لتنمو معي ملكة التأليف واصبح قاصا وروائيا وكتابا لعدد من مسرحيات الاطفال .
كانت متعة رائعة حين أقضي نصف الليل في العوم بالأخيلة الاسطورية لقصصه عندما يُسمحُ لنا بأستعارة قصصه من مكتبة المدرسة ليوم أو يومين فكانت قصصه ( أطفال الغابة ، السلطان المسحور ، الأميرة الحسناء ، الأنف العجيب ) والكثير من القصص تمثل بالنسبة لي فضاء من المتعة ، حرصت أن أنقلها من ذاكرتي لذاكرة التلاميذ ابناء القرية التي عُينتُ فيها معلما عند ضفاف شواطئ الاهوار ، فقط لأنقلهم الى عالم آخر غير عالم اسراب القطا والبط وغناء صيادي السمك والتعلم باكرا قيادة قطعان الجواميس ، وأظن أن تأثير قراءتهم لقصص الابراشي فتحت لهم أفاقا اخرى لأجواء لم يألفوها في أحلامهم التي لاتتجاوز بيئتهم البسيطة بمكوناتها ، حتى أن واحدة من قصصه أثرت على أحد الاطفال عندما كانت تتحدث عن ضياع صبي في المقابر الفرعونية المظلمة وخوفه حين نفدت معه اعواد الثقاب ، وفي ضياعه بين الاقبية والمقابر تعثر بتماثيل ملوك وكهنة وصدمت قدماه مومياء وتوابيت.
هذه الحكاية دفعت التلميذ ( عناد ) ليتحدى الحظر بالذهاب الى التلال التي تبعد عن القرية بفراسخ عدة وتظهر منها في الليل أضوية ويسمع قربها الصيادون اصوات غامضة ، ليعتقد المعدان ان هذه التلال المسماة ( الأشينات ) يعيش فيها الجن والسحرة واناس وملوك من ازمنة غابرة ، والصحيح انها تلول اثرية لسلالات سومرية عاشت هنا قبل آلاف السنين.
دفعت عناد ليأخذ مشحوف ابيه ويذهب الى هناك ليعيش اجواء قصة الابراشي على حقيقتها ، وعندما شعر الأب بفعل أبنه وجهة ذهابه جاء الى سكننا قرب المدرسة ليضع اللوم عليَّ فيما كانت الأم خلف الاب تنوح وتولول وهي تعتقد إنَ ولدها أما سيقتله الجن أو يختطفه السحرة ولا يعود اليها ثانية .
هدأت من روع الرجل ، وتطوعت لأذهب خلفه كي أعيده لكن أي واحد من ابناء القرية خاف أن يجيء معي سوى شغاتي عامل الخدمة في مدرستنا تطوع ليكون معي بعد أن جلب سيفا ، وحين سألته لماذا لم يجلب بندقيته .
قال :إن الجن يخاف من السيوف اكثر من البنادق.
قبل ان نصل الى الإيشان وجدنا عناد راجعا بزورقه وحين شاهدنا قال مبتسما :استاذ لم اجد اي شيء هناك ، لا مقابر ولا تماثيل ، لقد وجدت فقط جرارا فخارية متكسرة..!