بعد أكثر من عشر سنوات عجاف نزلت جماهير غاضبة تطالب بالإصلاح والخدمات , ومثلت هذه التظاهرات بارقة أمل لباقي أفراد المجتمع الذين اكتفوا بالوقوف موقف المتفرج والمحلل منتظرين من هذه الأعداد القليلة واقعا قياسا على مجموع الكتلة السكانية العراقية المتضررة من الوضع السياسي القائم ولعل الدافع لذلك هو طبيعة الفرد العراقي الميالة التي اعتادت على تحمل الظروف الصعبة والتأقلم معها ,مواجهة إشكالية الإصلاح تتبناها ثلاثة أطراف هي الجماهير والمرجعية الدينية والمصلح القادر على تنفيذ الإصلاح , الجماهير مثلتها الفئة التي نزلت للشارع بعفوية ودون قيادات أو تنسيقيات و استمرت على النزول للشارع أسبوعيا وهي تحمل شعارات متباعدة ومنها ما هو شخصي مما أتاح للمتصيدين بالماء العكر للاندساس في جموع المتظاهرين في محاولة لترويج أجندات لا علاقة لها بالقضايا التي دفعت للتظاهر , فما عبرت عنه الجماهير من مطالب مشروعة لم يشفع لباقي الشعب للنزول المليوني من أجل تحقيق الإصلاح , وهذا يشير إلى حالة بحاجة إلى مراجعة لمعرفة أسباب غياب الهم الوطني في السلوك الجمعي للشعب العراقي الذي يملك وعيا سياسيا يمكن لو أحسنت النخبة المثقفة احتضانه أن ينتج عملية إصلاح حقيقية .
فالمشكلة المهمة التي فرزها الواقع السياسي العراقي إضافة للإقطاع السياسي والمحاصصة الطائفية والفساد المستشري في مفاصل الدولة ومؤسساتها وفي كياناتها السياسية المتسلطة على الحكم هي عدم وضوح دور النخبة الثقافية في قيام الإصلاح
إن كثيرا من المتعلمين ومعهم الصفوة الثقافية لا زالوا مقتصرين في دورهم على تشخيص الخلل دون إيجاد الحلول وان طرحوا الحلول إنما يطرحون أراء ترقيعية مرحلية لا يمكنها إن تعالج جذور المشكلة لأنهم في حقيقة الأمر يتعاملون مع الحالة السياسية مجردة عن بعدها الاجتماعي معتمدين على أساليب منطقية قديمة رغم اطلاعهم على التطور المتسارع في علمي الاجتماع والسياسة فلا غرابة إن يتسبب هؤلاء في الضرر للمجتمع بدل المساعدة في إصلاحه فتراهم يملأون المجالس جدلا وانتقادا دون تقديم رؤيا واقعية قابلة للتطبيق ينتج عنها إصلاحا حقيقيا لمواطن الخلل إذا كان ذلك ممكنا لأنهم ينظرون إلى المشكلة مجردة عن أسبابها العميقة أي أنهم ينظرون إلى النتائج دون الرجوع إلى المقدمات التي تسببت بتلك النتائج لعدم إدراكهم إن المجتمع عبارة عن منظومة متفاعلة من العلاقات والمصالح وهو في صيرورة دائبة وتغير مستمر على وصف الدكتور علي الوردي , وهذا يعني إن الحقيقة لا يمكن إن تكون مطلقة عكس ما نجده عند منظري السياسة والمثقفين الذين يعالجون الواقع السياسي الذين يبالغون في أفكار طوبائية كونهم يعتقدون إن الحقيقة مطلقة لها جانب واحد هو أفكارهم التي يطرحونها فيضعوننا على سكة متاهة طويلة دون إن يجدوا حلولا قابلة للتطبيق وفق آليات صحيحة تتوافق مع الدستور والقانون يمكنها أن تنتشل البلاد من الخطر المحدق بها دون إغفال لحالة إن الآخرين أيضا يرون ما عندهم حقيقة مطلقة وغيرها محض باطل , لذا يتعين على هذه الطبقة إن ترجع عن الأسلوب المنطقي القديم وتنطلق نحو التجديد في معالجة الأمور والنظر من خلال المجتمع باعتباره مشاركا فعليا في حالة التردي القائمة لان العملية السياسية في العراق تمت بأساليب ديمقراطية كان للشعب فيها كلمة فصل دون التغاضي عن عيوبها التي نجحت أحزاب السلطة في استغلالها لصالحها من خلال وسائل ومقدمات لم يكن المجتمع قادرا على تحديد خطورتها قبل تجربتها , إن ما نحتاجه لمعالجة واقعنا السياسي وجود نخبة سياسية تأخذ على عاتقها تثقيف الشعب وترسيخ تجربته الديمقراطية وتشذيبها من العيوب التي مصدرها المجتمع نفسه فقد تحول المجتمع العراقي بفعل ظروف الاضطهاد السياسي والدكتاتورية وسطوة الثقافة المؤدلجة إلى بؤرة تنتج الفاسدين او تساعد على إنتاجهم وبالتالي فان عملية الإصلاح للوضع العراقي أصعب بكثير من التنظير وتشخيص الخلل لأنها تفتقد لعوامل الإصلاح المقتدرة المتمثلة بوجود حالة وعي سياسي عالية تدعمها مؤسسة قانونية فاعلة , ومصلح يملك المؤهلات الذاتية القادرة على مواجهة الظروف الصعبة التي تواجه كل عملية إصلاح وأيضا إن لا يكون هذا المصلح من داخل منظومة الفساد لان المفسد لا يمكن إن يتغير ويصير مصلحا أما الطرف الآخر في عملية الإصلاح فهو المرجعية الدينية التي تسببت في وصول أحزاب السلطة ورعتهم رعاية كاملة وسوقتهم للشعب على إنهم الطبقة الصالحة القادرة على تغيير وضع البلاد والنهوض بواقعه ولا يمكن لأي منصف إن ينكر هذه الحقيقة فأول قائمة انتخابية تأسست في ظل رعاية المرجعية الدينية وضمت ثلاثة او أربعة من كبار وكلاء المرجع الأعلى , وأسوء ما في الأمر أنها خاضت الانتخابات في ظل نظام القائمة المغلقة ورتب تسلسل أسماء المرشحين بما يضمن وصلهم إلى الجمعية الوطنية ومن ثم تسنم المناصب الوزارية إن اللجوء إلى أسلوب القائمة المغلقة كان الوسيلة الوحيدة لوصول أسماء غير معروفة للمجتمع العراقي إلى المناصب القيادية للدولة وبالتالي الاستيلاء على مركز القرار وعلى صناعته , وحين شعرت المرجعية بخطر هؤلاء ومكرهم كانوا قد أسسوا دولتهم وبنوا بنيانهم ولم تعد المرجعية غير غطاء ساتر لكل عيوبهم , ولم تتعامل المرجعية مع الوضع الجديد بغير النصح والكلام الذي لا يسمعه أدعياء الانتساب الى المرجعية وقد بدأت اولى خطواتهم بغض النظر عن نصيحة المرجعية بعدم استلام منحة الخمسين الف دولار المخصصة لتحسين الحال الاجتماعي , افما كان اولى بالمرجعية التي عرفت بحكمتها وبعد نظرها أن تتماهي بواقف تصعيدا مع تصاعد الفساد لقوى سياسية ترى المرجعية إنهم لا يمثلون نهج الإسلام وان تسمياتهم التي تلحق بها ألفاظا مثل إسلامي او إسلامية إنما هي يافطات فارغة من أي محتوى إسلامي وهذا الرأي عبر عنه مكتب المرجع الأعلى ومرجع آخر في إجابة عن استفتاء مقدم لهما عن جواز الانتماء للأحزاب التي تصدت للعمل السياسي بعد الاحتلال . خلاصة القول إن الإصلاح المنشود لا يمكن تحقيقه في العراق في ظل بقاء الظروف الموضوعية المحيطة بالعملية السياسية ومن يملك إسقاط رموز الفساد أو بالأصح القسم الأكبر منها هي المرجعية الدينية متى تحول خطابها من النصيحة والتوجيه للطبقة الحاكمة وأحزابها المتهالكة على السلطة إلى الأمر الصريح والواضح للجماهير بعدم انتخاب كل مسؤول وعلى مختلف المستويات من قوائم الكتل السياسية الحاكمة , وتسخير إمكانياتها الوعظية الضخمة لإرشاد المجتمع ورفع حالة الوعي لديه . إن إسقاط رموز الفشل والفساد لا يعني إسقاط العملية السياسية ولا يمثل مطلبا لأي طرف من إطراف المطالبين بالإصلاح إنما يمثل إنقاذا للعملية السياسية لان الاستمرار مع وجوه السلطة الحالية يعني الذهاب نحو الهاوية .