يبدو أن اليوم كحال سابقه، يتخذ نفس الروتين، فقد استيقظت في تمام الساعة السابعة من صباح اليوم ارتديت ملابسي أستعداداً للذهاب إلى العمل, فحرارة الجو تشعرني بالإرهاق والتعب, ثمة دوخة ثقيلة أصابتني قد أجبرتني للجلوس على الرصيف, أمام محل عملي, وشعرت لدقائق كمن وقع متدحرجاَ من جبل عالي وتهشمت عظامه, وتساءل صوتي الخفي, يا ترى هل هذه إدانة لتقدمي بالسن؟ أم بسبب حرارة الجو ؟ وما أن رفعت راسي مصادفة؛ حتى رأيت صبية جميلة تبدو كعذراء خجولة بضفيرة طويلة شقراء ملونه تصدح من أشعة الشمس واقفة أمامي تنظر الي بابتسامة بريئة ثم مدت يدها نحو حقيبتها المدرسية وأعطتني قنينة الماء الخاصة بها كأنها أدركت ما يحتاج اليه قلبي المسكين المتعب, ثم ذهبت تمشي كطفل يرسم خطواته الأولى التي تركت في نفسي أثرا لا يزول, فأزحت وأنا ارتشف الماء, وبمرور الوقت بساعات وفي لحظة عابرة أخرى, لمحت وجهها الفاتن مره أخرى يمر من أمامي, بدأ قلبي ينبض بسرعة, عندما نظرت اليَ وكأنها تريد الاطمئنان عليَ, فبادلتها النظرات المبتسمات, وتكرر الموقف بشكل يومي، عندما تذهب للمدرسة وتعود.
وفي أحد الأيام جلست أمام محلي أنصت لأصوات السيارات والمارة التي لا تهدأ, ومر الجميع خلافها, لكنها لم تمر, فقد غابت عن ناظري في الوقت الذي تعودت أن أراها فيه كل يوم،
وبعد دقائق قليلة امتلئ المكان بأصوات الناس, البعض يسأل والآخر يرد, حتى ارتفعت أصواتهم بالتزامن مع صوت سيارة الإسعاف التي دخلت إلى الحي, هرع أغلب الناس يسبقهم فضولهم لمعرفة ماذا حصل, ولماذا وكيف حصل, تشتت الجميع وبدت الحيرة ترتسم على وجوههم.
أما أنا فلم أعر اهتمام للموضوع, وبقيت في مكاني لم أتحرك ساكنا, من فوق الرصيف ابدآ, وبعد مرور الوقت وكعادة الناس تتناقل القيل والقال فيما بينها, سمعت بحصول جريمة قتل في الحي, والتي تتلخص بأن أخا قتل أخته!! بداعي الدفاع عن الشرف, وبعد مرور ساعات من الزمن, مرت جنازة الأخت التي قتلها شقيقها, وصوت بكاء امرأة تمشي وراء الجنازة يفطر أبدان السامعين والناظرين, وتخاطب من ينظر إليها:
أنها لا تزال يافعة المحيا, صغيرة العمر, كفرخ صغير لم ينبت ريشة بعد, لا يقوى على دفع الشر عنه, ولم تستطيع أن الدفاع عن نفسها فقتلها الشر الذي استحوذ على عقله!
أنها شريفه عفيفه وطاهرة, لم تفعل أي شيء يعيب أو يخزي, بل هي كل الفخر والثقة, فكيف بنهايتها تكن هكذا؟
وكعادة الناس والحديث الذي لا ينتهي، صُدمت بخبر أن المغدورة هي ذاتها، صاحبة الجدائل الشقراء، التي سقتني من عذب الماء في وقت احتياجي للمساعدة حينها!!
ومشى الجميع وراء جنازتها إلا أنا, الصدمة جعلت مني كالجماد ثابت في مكانه، لا يغادر ميمنة ولا ميسرة، والصمت طبق على كل ما حولي، فلم أعد أسمع أي صوت، وكأن الدنيا توقفت في تلك اللحظات!
اتكأت على حائط محلي, وتناهى إلى ضحكاتها وحيويتها وصوتها الناعم مع صديقاتها, حتى تمزق له قلبي, ولازمني التفكير فيها طوال الليل فمنع عني الرقاد رغم ما بذلت من جهد, وحرمتني من النوم ليلتها, ومنذ ذلك الحين وأنا على هذه الشاكلة, لم أعد اجلس أمام دكاني, لأن صوتها يخترق كل ضجيج الحياة، وكأني أسمع أنينها ونحيبها وهي تنادي بالمظلومية، اسمع صوت نحيبها ولا أرها, فألوذ من زاوية لأخرى كأني ألجأ إليها لأختبئ من جلبة جهنمية وصراخ لا ينتهي
وبعد أيام على رحيلها مر قاتل شقيقته المغوار المتشائم العبوس, يرتدي حريراً ملوناً برائحة الدم النتنه التي تفوح منه, وكأن شيء لم يحدث!!
فهذه مجرد بلد تزهق فيها الأرواح الطاهرة بتذرع منافي للأخلاق حتى وأن كانت المغدورة تحمل من الشرف والعفة التي يفتخر بها كل قريب أو بعيد، من أجل أن يتخلص الجاني من العقوبة عن طريق التحايل على القانون، فيا ترى كم من مغدورة ومظلومة وقعت ضحية هذا التحايل!!