18 ديسمبر، 2024 6:03 م

أضرحة العالم السُفلي – 5

أضرحة العالم السُفلي – 5

( إنَّ دَمْعي يا رينو عَلى الأَمْواتِ مَوْقوفٌ ، وَصَوْتي في رِثاءِ الظّاعنِينَ مَعْروفٌ . أنْتَ فَوقَ الرَّبوةِ جَليلٌ عَظيمٌ ، وَبيْنَ أطْفالِ السُّهولِ جَميلٌ وَسيمٌ . غَيرَ أَنَّكَ سَتُصْرَعُ كَما صُرعَ مورارُ ، وسَيَقِفُ عَلى قَبركَ أَصْحابُكَ المَحْزونونَ يَبْكونَكَ وَيَنْدُبوكَ ! سَتَنْساكَ التِّلاعُ ، وسَتبْقى قَوْسُكَ المُرْخاةُ مَهْجورَةً في إحْدى زَوايا القاعَةِ الكُبْرى ! )
آلپين ( Alpin )
***
الرَّبُّ المُتَعاليَ في السَمَواتِ ، يا مَنْ بيَدِكَ القُدْرَةُ العُظمى في قَهْرِ الوجودِ ، وَخَلقِ الأكوانِ وبَعْثِ النُفوسِ بَعْدَ المَماتِ ، أَيُّها السَرْمَديّ السّاكِنُ في عالَمكَ المَحْضورِ ، المُتَخَلْخِلُ في الأزْمانِ وَالعُصُورِ …
هَلْ وَصَلَكَ صَوْتي ؟
أرْسَلْتُ إليْكَ خِطاباً ( لحَنُهُ النّياح … يَمْتَطي الرّياح )
هَلْ حَالَ بَيْنيَ وبَيْنَكَ شَيء ؟
تُرى ، لِمَ تَأخّرَ جَوابَكَ عَنّي ؟
خُذْني إليْكَ … إلى عالَمِكَ الذي تَقول
أُقْسِمُ أنّي لَنْ أَخْدشَ فيها عُوداً ، وَلَنْ تَرانيَ كُلَّ يَومٍ أسْتَغيث ، لا رَغْبَة لي بِقَصْرٍ أَوْ حُورِ عِينٍ أَوْ شَرْبةِ ماءٍ مِنْ عَيْنٍ سَلْسَبيلٍ ، فَقَطْ ، أُريدُ أَنْ أَسْتَريحَ ، فَبَعْضُ بُعْضُ الوَجَعِ حِيْنَ يَتراَكمُ يَصيرُ ثِقْلاً ، وبَعْضُ الشّوْقِ حِيْنَ يَنْضَحُ ، يَسْكُبُ ألماً فَوْقَ ألَم .
ما احْتفاظكَ بيَ هُنا ؟ مَسْبيّاً في قِفارِ الجَهَلة ، مَأسوراً في وَحْشةِ البائِسينَ ، فيَّ شَوْقٌ لِحَياةٍ أهْنأ ، أُريدُ أنْ أسْتَبْدِلَ جَسَديَ المَهْتوكِ مِنَ السَّحقِ ، صَدْريَ المُهَشّم فيهِ أَصْواتٌ غَريبة ، بُكاء الأَطفالِ وَعَويل ذِئابِ المَقْبَرة القَديمَةِ وَهَفْهَة الأَحْراش في الأكماتِ المُوحِشة ، تَعْزِفُ كُلّ لَيْلَةٍ وتَنْدبُ جَنائِزَ عَلى مَدِّ البَصَر .
خُذْني إلَيْكَ ، سَأسْرُدُ لَكَ حِكايات أَرْضي وشَعْبيَ ، حكِاياتِ بيُوت الطّينِ وَالحَيارى السّائِرينَ بأطْرافِ المُدُنِ المَنْخورةِ  ، يَخْجَلونَ مِنْ ثيابِهمُ المُمَزّقةِ ، وجُيوبِهمُ الخاوية ، وأَيادِيهِمُ المُعَطّلةِ ، الفُقراءِ الّذينَ يَصومونَ قَهْرَاً ويَفْطِرونَ جَمْراً ، أَلحالمات بِغَدٍ أَحْلى ، وَذَكَرٍ يَطْرُقُ البابَ لخِطْبةٍ ، المُساقات سَبايا مِنْ أَزمانِ قَسْوَةٍ إِلى أَزْمانٍ خَوف ، وَرِفاقيَ الّذينَ ماتوا بِالمَشانِقِ ، هُمْ بَيْنَ يَدَيْكَ الآنَ ، ورُبّما تَتركهُم يَسْمَعونَ ما أَقُول … سَأَصِفُ لَكَ أَيّام الطُّوفانِ وَما فَعَلَتْهُ الغِيلان ، وكَيْفَ حَرَقوا غاباتِ النَّخيلِ حَتّى تَسيرَ المَواكِبُ وَتُدّق الطُبُول ، وكَسَّروا أعْشاشَ الطُيورِ المُهاجرة عِبْرَ المُحيط ليُوفوا النُذورِ ، سَأُخْبِرُكَ إنْ أردّتَ ، عَنْ سُجونِ البَشَرِ وقَسْوَةِ البَشَرِ وكَيْفَ تَقاتَلَ البَشَر ، بِتَفصيلٍ يُدْميَ قُلوبَ المَلاكِ الحافّينَ بِعَرْشِكَ ، سَأُخْبِرُكَ عَنْ عَطا ، ألفَتى الكُردّيُّ الجَميل ، حينَ شَنَقوهُ وَلَمْ يُكْمِل خَمْسة عَشَرَ رَبيعَاً ، وعَنْ طِفْلٍ مَخْنوقٍ في مَقْبَرةٍ ، وَبيَدِهِ ( دَعابُل ) زُجاجيّة ، التُرابُ أكَلَ جَسَدَهُ وَبَقَتِ الزُجاجاتُ في عِظامِ كَفِّهِ ، حِكايات فَرمِ الشّباب وَحَرْقِ النِساء وهَتْك بَكاراتِ العَرائِسِ لَيْلَةِ عُرْسِهِن مِنْ سُرّاقِ الوَطَن ، عِنديَ الكَثيرُ مِنْ مَلاحِمِ الحُزْنِ وصوَرِ النَّوحِ الآدَميّ … وإنْ لَمْ يَرُق لَكَ ذلكَ رَبّي ، فَلا تَعْجَل بِطَرْدي مِنْ سَناءِ حَضْرَتِكَ ، فَسَأَحْكي لَكَ حِكايات الغَرامِ في دُنْيا الأَحْلامِ ، وَساعاتِ الحُبِّ في أَزقّةِ مَدينتنا المَنْكوبةِ ، سَأَحْكي لَكَ عَنْ أَقْماريَ الزَرقاء البَعيدَة ، وَجنيّات لَياليَّ الطَّويلة ، سَأُخْبِرُكَ بِصدقي وَعِفّتي مَعَهُنّ ، وكَيْفَ كُنْتُ كَالطّفلِ المُشاكِسِ يُداعِبهن ، وكَيْفَ اسْتَحالت أقْداريَ مِنَ المُكُوثِ عِنْدَهنّ ، سَأَرْوي لَكَ الكَثير عَنْ جمَالِ وبَراءةِ ورِقّة مَنْ أحْبَبْتُ ، وسَيَطولُ الحَديث حَتّى تَملَّ مِنْ وَصْفيَ وشَكْوايَ وهُموميَ ، وسَتَعْلَمُ كَمْ قاسَيْتُ هُنا ، في هذهِ الأرْض التي كانَ أَبي سَيّدها ، وصِرْتُ أنا المُعَذّبُ المَنفيّ مِنها ، وأَخْتِمُ لَكَ سُطوريَ بِعالميَ السُفْليّ الذي استَقَرّيتُ فيهِ بِمَحْضِ إرادَتي ، إذْ تَجَنَبْتُ تَفاصيل المُدنِ المَحروقةِ ، والبيوتِ المَمْلوءَةِ بِدُخانِ العَرباتِ المُفَخّخةِ والألغامِ المَتْروكَةِ مِنْ زَمَنِ الحُروبِ الأهْليّةِ ، والشّوارِعِ ، تِلْكَ التي كانَتْ مَقاصِدَ العُشّاق ،  صارت مزينّةً بِجُثَثٍ مَقْطوعَةِ الأَطْرافِ ، مَلَلْتُ المَساجِدَ التي تَحّثُ عَلى سَبْيِ العُقولِ ومُصادَرةِ كُلّ شَيءٍ جَميلٍ ، اخْتَرْتُ العالَمَ السُفْليّ حينَ رَأَيْتُ الحُبَّ تَبَخّرَ وتَلاشى مِنَ القُلوبِ ، والصّدقَ تَكَسّرَ بَيْنَ الحُروفِ ، والتَفاهَة زَيَّنَت أَنْصافَ الرِجال ، وَزُوّرَ التاريخ ، وصَعَدَت أُمَمٌ ونَزَلَت أُخْرى ، وكَثُرَ اللّطْمُ والعَويلُ عَلى مَداخِلِ المُدِنِ المُقَدّسَةِ ، فَصارَت غَيْر مُقَدّسة ، وكانَ مِنْ أَمْرِنا ما كان ، جَفّتِ الأَنْهارُ ورَحَلَتْ غِزْلانُ التِّلاع الجّميلة ، ولَمْ يَعُد لَنا حَدائِق وَأَزهار ياسَمين ، لَمْ تَرْجع مَراكِبُنا المُبْحِرة عِبْرَ الخُلْجانِ لِتَجْلِبَ لَنا العِطْرَ وَالحَريرَ وَالبَهار ، لَمْ تَعُدْ مَدينتنا كَما كانَتْ ، فَلا سَمَرُ لَيالي ، وَلا قيثارة وَجْد تَعْزِفُ أَساطير لَحْن الخُلودِ ، وَلا حَتّى ، خَبَر عَنْ لِقاءٍ جَديد ، كُلّ أَخْبارنا ، سَيّديِ الرّب صارَتْ عاجِلة ، حَمْراءَ تَحْكي المَزيدَ مِنْ سُطورِ الدّمِ ، وَتُذيّل قَوائِمَ الرّاحِلينَ بِراحلينَ جُدُد ، إِلَيْكَ في غَيْرِ مِيعادِهِمْ .
أَيُّها الرَّبُّ الجَميلُ … خُذْ كَلاميَ عَلى مَحْمَل جدٍّ ، واسْحَبْني إِلَيْكَ ، يَئِسْتُ مِنْ هذا الكَونِ الأَحْدَبِ الّذي طالَ بِهِ المُكُوث .