( هَذَا مَا يُعْلِنُهُ السَّيِّدُ الرَّبُّ : أَيَّتُهَا الْمَدِينَةُ الَّتِي تَسْفِكُ الدِّمَاءَ فِي وَسَطِهَا لِتَسْتَجْلِبَ الْعِقَابَ عَلَى نَفْسِهَا، الَّتِي تَصْنَعُ لِنَفْسِهَا أَصْنَاماً تَتَنَجَّسُ بِهَا ، قَدْ أَثِمْتِ بِمَا سَفَكْتِ مِنْ دِمَاءٍ ، وَتَنَجَّسْتِ بِمَا عَمِلْتِ مِنْ أَصْنَامِكِ … لِذَلِكَ جَعَلْتُكِ عَاراً عِنْدَ الأُمَمِ وَمَثَارَ سُخْرِيَةٍ لِجَمِيعِ الْبُلْدَانِ … فِيكِ اسْتَخَفُّوا بِأَبٍ وَأُمٍّ وَجَارُوا فِي وَسَطِكِ عَلَى الْغَرِيبِ ، وَاضْطَهَدُوا الْيَتِيمَ وَالأَرْمَلَةَ ) حزقيال 22
***
ذلكَ الشّيء يَتَردّدُ في خاطِري ، مِنَ الصَدى وَالصّمت وَطلاسِمَ سِحْريّة . ذلكَ الشّيء ، كَأنّه مَنْ عَوالمِ العَفاريتِ يَقتَرب ، أَوْ بَينَ رُكامِ البَواخِرِ الراقِدة قَعْر المحيط يَشّع عَليّ ، كأنّه أنين ، لكنّهُ بِلا رُوح ، فَهل تَأنّ الجمَاداتُ المنسيّة في غَياهب ؟ أمْ لَعلّه حُلمٌ ، في عالمٍ استَحالَ فيهِ المنام ؟
ياكونيَ الصَدءُ الظالمُ الهاربُ مِنْ جُحرٍ الى جُحر ، وَلدتَني ، فَاستَحَقّيتُ كُلّ هذا النُزول الى كُهوفِ الهاوية ؟
وَالى الآنَ أحْكامكَ الغَبيّة ، سارية ؟
أمْ انّكَ هكذا ، تَبتَلِعُ الوُجودَ وَتلفظنا ، في مَتاهاتِ وُجودٍ أُخرى ، لا تَعرِف الإنْسان ؟
فَلِمَ أنا إنسان ؟ وَكَيفَ هوَ إنسان ؟
يجَنّ عَلينا الليلُ في العالمِ السُفليّ وَلَمْ نَزَل في مَساءِ الأمس ، فَالشّمسُ مَحجُورة تَحْتَ العَمائم والجُحُود .
يَجنّ عَلينا الليلُ ، نُسامِرُ بَعضَنا بَعضا بالمَواويل ، كؤوسُنا خاوية ، تَتأرجَحُ فيها شِباكُ العنكَبوت ، جِرارنا مُثقَلةٌ بِرمالِ المقبَرة ، أطباقُنا مَقلوبة ، نَشتَهي الهَمَّ فَنفتَرشُ التَوابيت ، لا شَيءَ يَأتينا مِنْ مَوائد المسوخ ، لا شَيءَ في عَوالمنا يَبعثُ على الأمَل .
نَصهلُ عِندَ أضرِحَتنا تَراتيل الخرف ، نُشعِل النّارَ ونَطوفُ نطوفُ بلا مَلل ، نَرقُصُ كالعَبيدِ المَبتوكة الآذان ، طُبولنا تَمنَحنا النَشوَة وَالشهوَة ، نَقطعُ أَعْشابَ الترياقِ وَنَمضغ ، فَنَثورُ أكثرَ فَأكثر ، إذن … فَليَهنأ العالمُ الّذي صَيَّرنا مِنْ ألفِ عامٍ بلا ثَمن ، بلا وَطَن … بلا أيّ شَيء يَحتوينا
لا زَماناً عِشناه ، وَلا مكاناً سَكنّاه
اخْتزلَنا الزَمنُ في لَحْظةِ كذبٍ واحِدة ، وَطوَقَنا المكانُ بغُربةٍ بارِدةَ ، نَطقنا الرُوحَ لَحْظةِ المَوت ، وَاسْتَشعَرنا الحياةَ كَظُلماتٍ سُفليّة ، مُمَدّدونَ على مَرّ البَصَر ، سَقَطنا بَعْدَ الطُقوسِ مُنْهَكين ، فَلا أكواخ تَأوينا ، وَلا سِكَك قِطار تَنتظرنا ، وَلا حدائق إنْسيّة ، وَلا حَتّى حَبيبة وَفيّة ، تَحنّ إلى نَكهةِ الحُب في فِنجانِ قَهوَتها ، أوْ تُحَصّن حَبيبَها الجَديدُ بدُخانِ ذكرياتِنا العَتيقة .
فَيا شَوقي المُحتَضر لِهَمسةِ مَساءٍ وَبَيتٍ في وَطَن ، كُفَّ عَن الدُوار ، فحَبيبُكَ أدفَء شِتاءَه ، وَوَطنُكَ مَسَحَ حُدودَه ، وَتاها في عَوالِم أخرى .
جَريمة الإنسان أنْ يَحيى وَهوَ لا يُدركُ انّه إنسان ، وَجَريمة الزَمَن أنه بِلا أوطان ، وَجَريمة الحياة أنّها تهديكَ كُلّ هذهِ الأكفان .
ما اعتراضي على حُكمكَ يارَبْ ، لكن ، في بَقايا قَلبي سُؤال ( أأنتَ تَسْحَبُ الحُبّ مِنَ الإنسان ؟ ) ، ضَجيج الداعرينَ في العالمِ العُلوي يَحولَ دونَ سَماعِ الجَواب ، هُم هكذا دَوماً ، يَبتلِعونَ الجَواب ، وَيَرمونَ فُتات السُمّ مَمزوجاً بدعاء ، فَنحنُ مَنْ خَسرَ الرهان ، وَالخاسرُ دَوماً يَسكت ، إلّا في أوطاننا ، تَراه مَزهوّاً ، كأنه طاووس .
لكنّ زَمنَ الملوكِ وَالطواويس وَلىّ وَرَحَل ، إذْ جاءَ زمنُ المُسوخِ وَتفاهةِ الوجوه المستَطيلةَ ، زَمَن أبطال الحُروب تَفسّخ ، حَلّ محلّه التقرفصُ في أحضانِ مَنْ تجبّر ، سِنيّ الصّبر على أنْ يَتحرر وَطن ، باعَتهُ ضَمائر لا تَعرفُ الوَطن ، تَزاحم المدفونينَ في قَبرٍ واحدٍ ساعةَ الفَجر ، استبدَله السُلطانُ بسَجادةٍ وَمحرابٍ وَعَقيق ، وَسَيَسمُو العالمُ العُلويُّ في زَهوهِ الكاذبُ حتّى الذرى ، وَمُلوكهُ سَتملكُ أرضنا وَتورِثَ الحُكمَ لمنْ تَشاء ، إنّهُ زَمَنٌ سَيَستَحي مِنْ لحَظاتِهِ وَشخوصِه ، وَسَيلعَنُ لحظةَ نُشوءِهِ ، وَلأننّا في مَتاهاتٍ بَينَ عَوالم قَسْوَةٍ وَجَريمة … فَسَتَكونُ الجريمة ، أنْ لَيْسَ هُناكَ مِنْ جَريمة .