19 ديسمبر، 2024 12:41 ص

أضرحة العالم السُفلي – 2

أضرحة العالم السُفلي – 2

{ أيّ صمت يخيم على الصحراء . لقد هبط الليل ، وأنا وحيد . إنني عطش ، يجب أن أنتظر بعد ، فأين هي المدينة ، وهذا الضجيج في البعيد ، والجنود الذين ربما انتصروا … } . 1940

سبقني إلى هناك أكثر من شبح آدمي ، رغم أن مملكة المقابر تلك  تعود لجدي ، وجلّ القبور كانت لأقاربي . كانت كل رغبتي في الوصول قبلهم ، لكني كنت أبحث عن شدة ورد ، ومنديل ، وآية من سورة التكوير .
تزاحُم العالم العلوي صار يعني موت الفقراء ليحيا الوطن ، لكي يحيا وطن ، لابد من قرابين على مد البصر ، فهات بصرك وأنظر إلى نفسي ، فهل سترى غير سرادقات الفجيعة ، ودخان الأكواخ المحروقة ، وبقايا بقايا أشجار التين المنخورة ، هل ستسمع غير نواح الطيور ، وحفيف الحشرات المذهولة ، سترى الأعمدة  والدمى وكراسي العجزة الخاوية  المتأرجحة بحزن ، قد داهمتها نيران الحروب ، وفي كل وجع من جسدي سترى نعيق الفجيعة .
تهشمت أحلامي يوم مسست تراب وطني ،  رأيت النار تقبل فأقبلت ، حارقاً ما بين سطري وسطري .
المسوخ السمان أقبلت ، ألسنتها تأكل كل ذي روح ، وكل ذي روح صارت مطاردة .
حنانيك يا توأم الروح ، قد سئمت الانتظار ، هناك وهنا أطارد عساكر الليل ؟ أولا تشفق على شوقي وترفع حاجز الحياة وتجيبني ، ما زلتُ في وحشتي أداويها ، أطارد أقماراً زرقاء مفقودة من زمن الإغريق ، أبحث عن سرّ عذاب ورثناه من الوطن ، ولا أجد سوى الهزيمة .
كيف يضحك هذا العالم العلوي وكل هذه الأرواح تُطحن من أجل لحظة ركود هادئة ، ومستقر استحال وجوده ؟
بالأمس ، زارنا في المقبرة صديق قديم ، كان مقاتلاً غيوراً ، مقاوماً في زمن العسرة ،  كان بلا رأس وبيد يسرى وحيدة ! لقد باع رأسه ليشتري قدح ماء ، كان صوته يخرج من منحره ، وحزنه واضح في نبرته .
قال لنا : أن القدح سقط منه وسط الزحام ، لأن آلاف المصلين كانوا يقصدون المحراب .
ثم قال :  لم يقبل البائع أن يملأ لي مرة أخرى ، وطلب مني يدي اليمنى ، قلت له خذ اليسرى ، لكنه أراد اليمنى .
حملت قدح الماء باليسرى لكنها ترتجف ، ولم أحمل بها من قبل ، سقط القدح في صمتٍ وذهب الماء بهدوء ، حين عدت إليه طلب ثمناً آخر
قال : أنت أو يدك الأخرى ، فأعطيته روحي لأحمل القدح باليسرى ، أعطاني الماء وأطلق الرصاصة ، ثم احتز رأسي وهو يكبّر .
كلنا فرحنا ، لأن صاحبنا اشترى الماء .
بقلمي كتبت أم بروحي ، سيّان ، لأني وخاطري قد هزمنا ، ولم نزل كذلك ، حتى تدق الساعة ويتحرك غولٌ ، وينتفض مظلومٌ ، وتعلو غبرة ، وتسمع صوتاً ينادي … أن هذا باطل ، وأن هناك جريمة ، وأن ليس للإنسان إلّا ما سعى ، لكن عمراً شاخ في الغربة هل يسمع مثل هكذا نداء .

* ايوب سابقا