اعتبر نفسي غير محظوظة حين يأتي موعد نشر مقالي يوم “عيد الأم”! لأنني ببساطة أقف عاجزة تماما أمام المناسبة، كما أقف أمام أمي حين تسألني سؤالا لا أعرف كيف أجيبها عليه، بدون أن تغضب، وبدون طبعا أن تكتشف كذبتي.
المناسبة التي كانت ولا تزال تحمل طابعا حزينا شجيا مثيرا للعواطف الجياشة، صنعت صورا نمطية في التعامل مع الأم و متعلقاتها، كلها منقولة حرفيا أو بتصرف عن أغنيات ومشاهد درامية سجنت الأم فيما مضى داخل قالب الشجن والألم.
رغم أننا وحين ننظر إلى الواقع، ونتأمله جيدا، نلامس تناقضا شديدا في طرح الأم من زاوية الضعف والاستكانة، و بين حقيقة دورها في حياتنا جميعا، المؤسس على القوة والشجاعة والصبر والتحمل. فمن واقع قصصنا المتشابهة غالبا، كانت أمهاتنا ومايزلن ونحن معهن بعد أن خضنا التجربة، المصدر الرئيسي للانهلال من “لبن السباع” كما يقولون، حتى ولو كانت في حياتها الأخرى، إنسانة بمنتهي الضعف وقلة الحيلة والحظ.
الحياة الأخرى التي أعنيها هي حياتها مع زوجها ومن قبل مع أبيها، حيث مصادرة حقها في التعبير والاستيلاء على أمنياتها و أحلامها وعواطفها، بقوة السلطة الأبوية والزوجية التي منحها المجتمع للذكر وما يزال، واستعملها كثيرون بشكل مهين وببالغ الاستبداد!
رغم ذلك، فأمهاتنا نساء قويات شجاعات حكيمات، دفعننا بكل ما أوتين من حلم لا يموت نحو تصدر مشاهد النجاح، والاستزادة من القيم الأخلاقية الطيبة التي صنعت منا نساء ورجالا ناجحين في الحياة، أو حتى فاشلين في بعض مناحيها، إنما قادرين على تذكر صوتها ودعواتها دائما للانطلاق من جديد، وهذا بحد ذاته قوة وجبروت وعنفوان، يتطلب شكلا احتفاليا مختلفا عما سبق، يتناسب طرديا مع عيون الأمهات القويات، ونظراتهن التي لا تخطئ معانيها أبدا مع أبنائهن، فيمضون قدما تجاه الهدف، ولو متأخرا، ولكن بدافع تلك النظرة الصارمة الثابتة بدون رفة جفن!
أعرف أن الشجن المصاحب لعيد الأم، مرتبط ذهنيا بتضحياتها ومثابرتها وتعبها وسهرها علينا، لعقود طويلة، تمتد أحيانا بل وكثيرا إلى مرحلة الأحفاد الذين نرميهم على أبواب صباحاتها، قبل أن ننطلق لأعمالنا ومشاغلنا، إنما بحق الأم في مجتمعنا من داخلها قوية جدا؛ استطاعت أن تستمر و تمرر رسالتها العظيمة بكل الأشكال المتاحة لها؛ طوعا وغصبا. فالنتذكر مثلا صبرها غير المحدود علي المكاره وكظم غيظها واجتراع مرارات زمنها، من أجل أهداف صغيرة متراكمة متعاقبة، تبني للهدف الأكبر؛ نحن كما نحن عليه الآن.
هذا المشهد وإن كان بعد مرور السنوات يرتسم في ذاكرتنا بحزن، ترافقه موسيقي تصويرية من أغنيات “يامو” و”ست الحبايب يا حبيبة” و”سيد الحبايب يا ضانايا إنت”، يجب أن يحل مكانه مشهد رائع لشموخ وعزة وأنفة وعناد، تصاحبه أناشيد سعادة وموسيقى إيقاعية تعبر عن الفرح و الفخر، لا عن الضعف والمسكنة.
ثم، من صاحب صورة ومقولة إن الأم دائما مسكينة ومغلوب على أمرها، لدرجة أن النكد صار رفيق ملامحها وصوتها وحركتها؟ بصراحة لا أجد ذلك صائبا تماما! فالننظر حولنا لنستطلع الأمر، وسنعود مدججين بحكايات ليست مثالية تماما، بل ربما تكون فكاهية ومجنونة!
عموما، وفي استغلال مشروع لمساحتي الصغيرة هذه، اسمحوا لي أن أعيد على “ماما” بالنيابة عن أمهاتنا جميعا؛ من ولدن ومن لم يلدن، من خالات وعمات وجارات وصديقات لطيفات: كل المفردات تقف حائرة بين أصابع كفيك المتلاصقة ببقايا العجين ومماحي أقلام الرصاص و”الفازلين الأصلي”، وخيطان آخر السهرة، وزفرات المعوذتين، ولحظة إعلان النتائج.. هذه أصابعك فقط، فكيف بك كلك؟ كل عام وكلكن بألف خير، وابقين سعيدات!
نقلا عن الغد الأردنية