22 ديسمبر، 2024 11:52 م

يبدو أن الحالة التي نعيشها اليوم بين الكم الهائل من الدجل والنفاق والمكر، يجرنا إلى أن نصم أسماعنا. يبدو أن لا نهاية لكل هذه المكائد التي بلغت حد التفنن بها في إستمالة القلوب وتلوين الكذب. حتى بلغ الأمر مبلغا أن يتفاخر المخادع بخدعه وأن لا يستحي الكاذب من كذبه. أمر غير معتاد أن تجد المتملق يرتقي المناصب وذو الكرامة يذل وبإصرار.
عملت مع المخرج التلفزيوني الأستاذ عرفان صديق دايله في تلفزيون النبأ بمدينة كركوك. والأستاذ دايله هو فنان يفهم الناس جيداً. خبرته في الحياة ومعاشرته لأصناف مختلفة من شرائح هذا المجتمع جعله ملماً بخفاياهم ونواياهم وصار مطلعاً على ما يدور في خلجاتهم.
دايله يعاني من مشكلة في السّمع، الأمر الذي دفع به إلى استخدام سماعات الأذن. عندما ينوي الوضوء للصلاة يخرج السماعة من أذنه، وعندها لا يسمع حتى لو ناديته عن قرب. لاحظته في بعض المجالس أيضا وهو لا يضع هذه السماعات في أذنيه. استغربت للغاية! فكيف له أن يفهم الحديث الذي يدور في هذا المجلس وهو لا يضع السماعات في أذنيه؟!
كان متقناً لعمله في الإخراج التلفزيوني ويبدع فيه، لأنه كان يعمل بكل حب وإخلاص. جائه أحد الشباب المبتدئين ينتقده في إحدى أعماله. الحديث كان في غرفتي في مبنى تلفزيون النبأ. حاول إقناع الشاب بفكرته إلاّ أن هذا الشاب كان يعيد نفس الكلام كل مرة. فجأة وجدت الأستاذ دايله يخرج السماعات من كلتا أذنيه ويجلس ليترك الشاب هذا يتحدث ويتحدث.
انصرف الشاب بعد هذا النقاش العقيم. بينت للأستاذ دايله اندهاشي الشديد من أمر إخراجه السماعات من أذنيه فكيف له أن يسمع بعد ذلك؟ قال لي الآتي:
“الكثير من الحديث لا يستحق السماع والكثير من الأشخاص لا يستحقون الإصغاء”.
هنا عرفت أن الأستاذ عرفان صديق دايله كثيراً ما ينزع السماعات من أذنيه لكي لا يسمع من الكذب المزيد. علمت إنه يتعمد في تجاهل الكثيرين بعد أن تيقن أن حديثهم بعيد عن الصحة وعار عن الصدق. إنه إتخذ قراره في تجاهل ما يفسد عليه صفوة النفس من ترهات الأمور والكلام الجائح. لا يفعل أمام المتملقين سوى أن يخرج السماعات من أذنيه لترك من لا يعجبه قوله يسترسل في التزييف ويخلد هو إلى عالم الصمت الذي يفضله على ما يمكرون.
أتذكر ما فعله الأستاذ عرفان دايله اليوم وأنا أشاهد التلفاز أو أجالس الكثيرين من المتزلفين. اضعف الايمان بات غير مجدياً وبالسكوت لا يلتئم الجرح العميق. في مصارعة المضللين نحتاج إلى صم اسماعنا وغض ابصارنا لنمنع سوء الأفعال هذه من أن تتسلل إلى احشائنا وتسمم أبداننا وتقلق انفسنا.
تماماً كجماعة يمشون في العراء، فينصب عليهم مطر شديد تصاحبه ظلمات بعضها فوق بعض. مع قصف الرعد ولمعان البرق والصواعق المحرقة التي تجعلهم من شدة الهول يضعون أصابعهم في آذانهم خوفاً من الهلاك وحذر الموت.
ونوما هانئا للجميع.