22 ديسمبر، 2024 1:56 م

أسماء الرومي بددت حيرتها بأناقة كلماتها

أسماء الرومي بددت حيرتها بأناقة كلماتها

أظهرت الإيقاع كعنصر تعويض عن تكرار المعنى استخدمت المجهول لبناء مطلع القصيدة لتدفع القارىء لمزيد من التساؤل
محاولة تشتيت ذهن القارىء والتمرد على المألوف ، هي محاولات موروثة لدى الشعراء عموما وليس وليدة قصيدة معينة أو نهج لشاعر يقف عنده دون سواه، قد يعيق هذا التمرد حرية القصيدة وانفتاحها بصورة عامة، إن ذهب الشاعر لتبني موقف التمرد الى النهاية ، ويؤخذ على طريقته بأنها نصوص مواجهة لواقع فرضته الموروث وتبناه المجتمع وشذ عنه الشاعر ، وهذه المواجهة ليست في صالح الشاعر إن أصر على الاستمرار بها وكرسها طريقاً لا رجعة فيه . لذلك فالتنويع مطلوب ، وتبادل الأدوار في المنجز الشعري مطلوب أيضا، كما إن الشاعر قد لا يصل الى صفة المبدع إن التزم نهجا واحداً ، أو خطاً دون سواه.

بدأت أسماء الرومي قصيدتها من المبهم ، وهي بداية تدل على التشاؤم مما يحيط من ظروف ، وبالمعاناة التي يعيشها الشاعر ، وينقلها عبر خلجاته تأويلا ويجسدها شعراً للتعبير عما يدور في نفسه ، أي إن أسماء لجأت الى الوجداني في التعبير عما يختلج في نفسها.

وتعبيرها الذي ضمنته أبياتها يدل على إنها ترى كل ما حولها مضيئاً ، إلا أن حيرتها لا يغطيها شيء ، وكلمة (شيء ) ترسل إشارات عدة لا تدخل ضمن المعلوم ، بل هو تعبير عن كوامن النفس أو ما نريد أن نخفيه لفرط الألم الذي نعانيه وجدانياً، أي إنها استخدمت المجهول لبناء مطلع قصيدتها لتدفع القارىء الى التساؤل عما أخفته أسماء ضمنياً بين أبياتها

ولم تفصح عنه لفظياً.

لا شئ يغطي حيرتي

في هذا الجزء المضيء من العالم

والمظلم من حولي

الحيرة التي ألزمت أسماء نفسها بها في أبياتها ن تضع القارىء أما أسئلة عدة ، منها إن حبكة القصيدة بنيت على الخطاب الشخصي ( أنا) ( حيرتي) ، ( من حولي) على الرغم من أن عنوان القصيدة ( إجهاض) وهو عنوان يدخل في المبني للمجهول ، وتجنح للمبهم في كل تأويلاته ، وتلك مفارقة ظاهرة في بناء النص وعلاقاته التي تتشكل من عناصر عدة .

ولكي نعبر بدقة عن مآلات النص وأسس تركيبه ، لابد من الإشارة الى أن أسماء استعارة الفكرة من الوجوديات كفرة أساسية ( الحيرة، والظلام) أي تأويلات كونية ، فالحيرة أزلية ومثلها الظلام، وتوارد الحيرى وإقرانها بالظلمة جاءت في الكثير من الفلسفات القديمة والحديثة ، ولها تأويلات عدة وتفاسير أكثر.

حتى أن القرآن الكريم جاء على ذكر تفاصيلها في الكثير من الآيات الكريمة وبخاصة الحيرى التي كان عليها سيدنا إبراهيم عليه السلام وهو يتفكر في الخلق بأسئلة جدلية باحثاً عن ربه ، بصورة القصص القرآني المعروف، الجدلية التي ضمنتها أسماء أبياتها هي اقرب ما تكون إنشاء صورة فلسفية مقاربة لتساؤلات تركت بابها مفتوحاً أمام القارىء ليجلي غموضها ويسبر أغوار الحيرة التي أرادتها أسماء الرومي باباً تلج منه نحو تأصيل ثقافة التساؤل لدى المتلقي ، ليتفكر بما يحيطه من أشياء وإحداث تبدوا مبهمة لكنها قابلة للتفسير إن أعملنا عقولنا بخطوات البحث الواقعي لنصل لنتائج متنافرة مع الواقع المؤلم، ونجحت في توجهها حين أسست لتلك البداية.

لا فضاء يتسع لصرختي

ولا أرصفة تمتد لخطى الأحلام

البنية الإيقاعية للنص الذي اعتمدته أسماء الرومي قد يدفعنا لوضع القصيدة في خانة النثر المتمرد على الإيقاع الشعري النمطي المعتاد ، وغرائبية الصورة التي رسمتها أسماء تكرس هذا التصور أيضا، إلا إنها ولجت بحوراً عدة في أبياتها أضفى عليها مزيداً من التقبل لدى القارىء ، فهي دنت من الرجز المتدارك وهو ما ينتظم في عدة تفعيلات ربما في سطر واحد ن وبخاصة في بداية سطورها، وهو يدخل ضمن الذائقة الشعرية المتوارثة لأسماء ، لكن بالمقابل يظهر الإيقاع كعنصر تعويض لأنماط أخرى من ضمنها الوزن عبر تكرار المعنى.

انسجام المعاني في أبيات أسماء والتناغم مع الصيغة الصوتية ، ودلالة المعنى ، أظهر التشكيل البصري المتناسق من خلال اعتماد أسماء سطورها الشعري بشكل متساو تقريباً ، وهو ما تكرسه الذائقة الشعرية الجميلة والأنيقة عند الشاعر.

نقطة الارتكاز في قصيدة أسماء الرومي ( إجهاض) هو ما يشكله الانتقال من مرحلة لأخرى عبر استمرارية العمر ن وتغيير المكونات والمؤثرات المحيطة، فقد بدت أسماء من الحيرة ثم تبعتها ضمنياً بالخوف الذي ينشره الظلام ، وعلاقة هذا بذاك جدلياً وشكلياً أيضا ،وصولاً الى ضيق الكون والثقوب التي ذكرتها في رحم السلام ، وهنا ربما تكون إشارة لما يحيط بالعالم من مآسي وألام اثر الحروب والنكبات التي تحدث ، إلا إن كل هذا هو ما يحيط بالنص من مؤثرات ، والأهم الذي بنت عليه الشاعرة جدلية حبكة قصيدتها يرجع الى التقلبات التي تعانيها المرأة في مزاجها بعد سن معين ، وما يحدث من مجهول يرافق عمرها يدفع بها الى الحيرة التي تجهض شكل الحياة ، التي لم تعد تراها أسماء أكثر من كومة ركام، كما وصفتها.

كلما اتسعت أفاق روحي

ضاق الكون بي

وانثقب رحم السلام

ليجهضني

وسط كومة من ركام…

القصيدة تدخل في باب الوصفي كونها تؤطر لعلاقة وطيدة بين ما ذهبت إليه اسماء وبين أبياتها التي اتخذت وصف حالتها التي تشي بمزيد من الحيرة عبر تقلبات الشكل والمضمون ، فاستعلمت فيها لغة تخاطب الوجدان حين ضاقت عليها وطأة الحياة .

متخذة من المعاناة طريقا لوصفها الذي أجادت فيه ، وكرسته بتمازج الإيقاع نحو فضاء ات مفتوحة أمام القارىء ، تحررت فيها من عبء الحيرة وضيق الكون، وأفردت مساحات أبياتها لتظهر القلق الذي ينتاب الإنسان ، والمرأة خاصة في مراحل معينة ، لتأخذنا الى نهاية بنت عليها قصيدتها حين جسدت حقيقة النهاية بالركام.

أبدعت اسماء في الوصف ن، وأجادت بانتقاء مفرداتها وتنسيقها أبياتها وفق أناقة الحرف والشكل والمضمون، وعالجت قصر القصيدة بدلالة المعنى ، ورهافة الإحساس ، وأفردت للتشويق باباً واسعاً عبر الدهشة التي بنت عليها قصيدتها.

والملاحظ هنا أن صيغة (كان لابد لي) تحولت إلى (لابد لي)، في نهاية النص وهذا التحول شكل إصراراً على تحويل مسارات القدر والمآل الذي تنتهي إليه الأنثى.

وإذا كان النص في مظهره يبدو أنه بحث عن معنى الوجود فإن جوهره شديد الإيمان بالقدر من خلال العودة إلى الإرادة المطلقة التي تسير الحياة (أخشى الموت لأنني لم أفرش للميتافيزيقيا بيادر الطاعة)، وهي مفارقة أخرى في حركة النص. إن الملاحظ في هذه القصيدة أنها تبدأ من النتائج ثم تنتهي بالمقدمات وهذا السياق موضع شدّ للقارئ الذي يحاول ملء فجوات النتائج من خلال التفاصيل التي يوضحها النص بالتتابع، وهو يعلل النتائج التي توصل إليها، ولهذا يمكن القول إنها قصيدة ذاكرة وتحتمل تأويلات مختلفة.