رجلٌ كادح يخاف الله ربه، يتكسب ليعيش مع عائلته حتى لا يضطروا لمد يدهم إلى من لا يعرف الله، يجمع قوت يومه ويدخر بعض الأموال لتكون له عوناً عند شدته وملاذاً له من آفات الزمان، يسكن في بيته المتواضع المحتاج إلى سدّ أكثر من نقص، ما ترك شيء فرضه الله وما عملَ عملٌ حرّمه الله، عمله في الحديد والنار يذكّره بلهيب تلك النار التي وقودها الناس والحجارة وبتلك السلاسل التي ذرعها سبعون ذراعا، عندما يضع الحديد الملتهب في الماء، يردّد: اللهم أطفئ غضبك ونارك عنّا، يشعر بالراحة في عمله الشاق عندما يتذكر حديث المصطفى (ص): (الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله).
في أحدى الأيام يزوره أحد معتمدي المراجع لمكان كسبه، يجلس عنده ويسأله عن أحواله وأوضاعه، يجيبه الكادح بحمد الله، يغيّر السؤال ويسأله عن مكسبه ورزقه، كذلك يجيبه بحمد الله ربّه.
هنا تبدأ مهمة المعتمد ألا وهي الدين والرزق الحلال والابتعاد عن المكاسب المحرّمة ومخافة الله والقبر وظلماته، ليسأله: هل لديك رأس سنة خمسية؟! يجيبه بالنفي… هنا.. ينتبه رجل الدين انتباه مستيقظ من كابوس مهول تكاد تخرج عيناه المنتفختان من جمجمته، يهز برأسه الكبير ويقبض بلحيته السوداء المُسرّحة المُلمّعة ذات الشِبر، ويغمض عينيه ويومئ إلى الأرض إيماء متأسف، ليقول له بصوت منخفض لا يخلو من الانفعال: يا للهول ان أموالك كلها حرام يا مؤمن!!! ارتعش بدن الكادح بعد سماع الخبر وتغير لون وجهه إلى الحمرة، وهو الذي لم يتكسب بالحرام طوال حياته!! سأله بصوتٍ مرتبكٍ مرتجف: ماذا عساني أن افعل الآن؟ أجابه المعتمد بعد هنيئة: إن القضية أسهل مما تتصور، الحل هو المصالحة. وهي اختصاصي، خمّس ما لديك من أموال، وما اشتريته فيما مضى فإنك تصالحت معي أنا معتمد المرجع الذي تقلده.
ذهب المسكين إلى بيته وجمع أمواله وقسّمها على خمسة ورجع إلى المعتمد وأعطاه الخمس، قال له المعتمد سأأتيك بوصل الاستلام عند ذهابي إلى المرجع الأسبوع القادم.
لم يكذب المعتمد، ذهب إلى المرجع وأعطاه الخمس فأرجع المرجع ثلث الأموال إلى المعتمد ليتصرّف بها وأعطاه وصل خمس الكادح، رجع المعتمد إلى الكاسب وأعطاه الوصل قائلاً له بشراك بشراك إن أموالك من الآن حلالٌ حلال، إن رأس سنتك الخمسية توجب عليك دفع خمس ما جمعت في خلالها وأنا حاضر لإيصالها إلى نائب الإمام فأنا معتمده هنا.
الكادح يجمع قوتاً لا يموت ويخمّسه والمعتمد يجمع الثلث حتّى مضت أعوام على تلك الشاكلة، الكادح أصبح كهلاً والمعتمد تقدّم به العمر، حتى جاء يوم خطوبة ابن الكادح وهو حائر لا يعرف من أين يأتي بتكاليف زواج ابنه الباهظة وأين يسكّنه؟ هل يبني له في نفس بيته المتواضع الآيل إلى السقوط؟ ظل الكادح في محلّه يبكي وهو ينظر إلى الأعلى يتوسّل إلى بارئه، للحظة توقف عن البكاء والدعاء وتذكّر المعتمد وقرّر أن يذهب إليه ليجد له حلاً لمعضلته، لكنّه لا يعرف أين يقع بيت المعتمد، لم يمنعه هذا الشيء عن البحث، بحث في كل حدب وصوب وجاب البلاد وسأل العباد حتّى وجد طفلاً قالوا أنّه ابن المعتمد، ذهب إليه وطلب منه إيصاله إلى بيتهم، مضى الكادح وراء الطفل حتّى أشّر له الطفل بأصبعه الصغير إلى بيتهم، وقف الكادح مصدوماً أمام ذلك المنزل الفاخر والسيارة الحديثة البيضاء أمامه، دخل الطفل ونادى والده المعتمد، خرج المعتمد بدشداشته البيضاء الساطعة إلى الكادح وعانقه بحرارة قائلاً له تفضّل لنجلس في الداخل أيّها المؤمن، لم يدخل الكادح إلى البيت وشرح للمعتمد معضلته، أومئ المعتمد برأسه، فلم يتوقّع المعتمد أن الكادح أتاه سائلاً غير دافعا، وظل يحك بلحيته التي أصبحت شِبر ونصف الشِبر إذ الشيب غزى النصف، وقال: سأذهب إلى النجف وسأتحدث مع المكتب الأعلى إن شاء الله..
رجع الكادح إلى أهله متأملاً بوعد المعتمد… بعد أسبوع جاءه المعتمد وسلّم عليه ووضع في جيبه ظرف وذهب، رجع المسكين إلى البيت وهو في شدّة الخجل والفرح، جمع عائلته ليزفّ لهم البشرى، أخرج الظرف من جيبه وكلّه أمل أن الظرف يحتوي على دولارات، فتحه وإذا به يرى 50 ألف دينار عراقي مكتوب عليها مساعدة زواج!!
القصد: ليس إنكاراً ولا استهزاءاً بفريضتي الخمس والزكاة ولا قدحاً بهما ولكن ليعرف كلّ منّا أين تذهب أمواله وكيف تُوزّع؟ وسيحاسبنا الله على ذلك حتماً..