18 ديسمبر، 2024 11:25 م

أسعار النفط المتصاعدة … والتنمية في العراق

أسعار النفط المتصاعدة … والتنمية في العراق

تشير جميع التوقعات الاقتصادية العالمية (وكان آخرها تقرير سيتي بانك الأمريكي) بأن أسعار النفط في ازدياد تدريجي مستمر في هذا العام (2018) ليصل مستواه الى ما بقارب حوالي 80 دولاراً للبرميل الواحد. ومع أن الموازنة تحسب لحد الآن بمعدل سعر 45$ للبرميل، فإن الزيادة المتوقعة للموازنة لهذا العام سوف تتجاوز نسبة أكثر من 45%، وهي زيادة كافية لأن تغني العراق استجدائه للقروض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. وبحساب بسيط فأن الدخل المتوقع من مبيعات النفط لهذا العام بمستوى التصدير الحالي (حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون برميل يومياً) سوف يصل الى ما يقارب بين 90 مليار الى 100 مليار دولار (حوالي أكثر من 100 ترليون دينار).
سيكون العراق بمقدوره واقعاً – بعد القضاء على داعش وتحرير أراضيه من سيطرة الارهاب – أن يبدأ بحملة إعادة الاعمار على مستوى الوطن كله وليس فقط في المناطق والمحافظات المتضررة من الإرهاب. ولكن ليس معنى هذا أن الزيادة في الموارد المالية من النفط سوف يكون لها أثر في تحسين في مستوى دخل المواطن المعاشي أو حالة النهوض بالأعمار والتقدم الاقتصادي ما لم تكن لدينا رؤية واضحة للتنمية على المدى القصير خلال (3-4 سنوات) والطويل (الخمسة عشر سنة القادمة). فالتنمية لا تأتي ولا تسير بخطوات نافعة ما لم تكن هنالك خطط مدروسة ومحددة وتكون تحت متابعة دقيقة وصارمة لمدى إنجازها على أرض الواقع بصورة نزيهة (وليس الإنجاز على الورق بحساب المصروفات المالية على المشاريع، فقد جربنا هذه الطريقة على مدى الخمسة عشر الماضية ولم نصل الى نتيجة، ولكن بقي العراق يراوح مكانه). ولعل المبادرة التي قام بها مكتب رئيس الوزراء بالاعداد لخطة عام 2030 هو خطوة بالاتجاه الصحيح، عليها أن تتصاحب برؤية واضحة المعالم وبينة من قبل رئاسة الوزراء.
هنالك الكثير من الدول مرت بأزمات اقتصادية وحروب ولكنها استثمرت جهودها في بناء نفسها اقتصادياً واجتماعياً وحضارياً توصلت الى مستويات عالية في التنمية، وكان ذلك من خلال رؤية حكوماتها واضحة في تحقيق أهداف معينة وعلى مدى عمر جيل كامل (حوالي العشرين سنة). كما أن الملاحظ من التجربة التاريخية بأن التنمية لا يمكن أن تقوم إلا بسواعد أبنائها (فالموارد المالية للاقتصاد يمكن أن تأتي عبر الاستثمارات الأجنبية).
أهم ما يميز العراق ليس فقط موارده الاقتصادية والمتمثلة بالموارد النفطية والمياه الجارية والاراضي الخصبة والمعادن الثمينة، ولكن الذي صنع الحضارات على أرض الرافدين عبر التاريخ إنما هو طاقاته البشرية التي يجب أن يكون تنميتها من أولويات الدولة والحكم في العراق. فعلى الرغم من عدم وجود الموارد الطبيعية في الكثير من دول أوروبا وبريطانيا واليابان، وقلتها في الصين، فإن الذي صنع التقدم والبناء الحضاري عندهم هي طاقاتهم البشرية.
ولكن من أهم سمات السنوات 15 الماضية أنها تتصف بالقضاء على جهاز الدولة وهدر موارده البشرية، رافق ذلك اتباع سياسات اقتصادية مضطربة في الفترة الانتقالية (من النظام الاشتراكي الصارم الى اقتصاد السوق) سارعت بتهميش اي دور للدولة في تقديم خدماتها بالصورة الكفوءة للمواطنين، وهذا تصاحب بفتح السوق العراقية للمنافسة الشرهة للبضائع الاجنبية في السوق العراقية بدون رقابة حكومية مما شل القطاع الانتاجي الزراعي والصناعي، الخاص والعام، برمته. فلا يمكن أن نتوقع أن يقوم نظام السوق بيده الخفية (الافتراضية) في دفع عجلة الاقتصاد بمعجزة حالمة بدون تدخل من الدولة تكون برامجها نابعة من خريطة طريق بعيد المدى لتوجيه موارد الدولة وطاقات العراق البشرية وثرواته الوطنية لإعادة الحياة للقطاع الانتاجي عل مستوييه الخاص والعام وتحسين الأداء الحكومي.
ونتيجة لهذه الارتجالية في رسم السياسات الاقتصادية لم يبق لدينا أي اقتصاد إنتاجي يذكر، صاحبه هجرة للموارد البشرية الكفوءة خارج العراق. فالعراق مصاب بمعضلة الحدود المفتوحة باتجاهيين على مصراعيها: فهنالك استيراد واسع النطاق للسلع والبضائع القادمة الى أسواقه، وفي الوقت نفسه تصدير طاقاته البشرية الى الخارج. وعلى هذا المنوال لا يمكن بناء تنمية اقتصادية في العراق بدون الحد من كلا الشرخين. واذا أضفنا الى ذلك تفتيت جهاز الدولة ومؤسساتها الحكومية من خلال المحاصصة السياسية المذهبية التي شلت قدرة جهاز الدولة بالقيام بدوره فإن التنمية الاقتصادية وصل الى حافة الهاوية. فما جرى أقامته من كيان سياسي بعد 2003 جاء متهرئً نتيجة مأسسة المحاصصة الطائفية في نظام الدولة وتفشي الفساد الإداري في الجهاز الحكومي.
إن انعدام الرؤية في رسم خطط التنمية الاقتصادية أو في خطط في تحسين عملية تقديم الخدمات للمواطنين لا يجب أن نتوقع من هذه البيئة بأنها ستؤدي بقدرة قادر الى طفرة في التنمية الاقتصادية أو أن تخلق استقرارا في العملية السياسية أو استتباتاً في الوضع الامني.
ومحصلة هذا الوضع، جنى الشعب العراقي نتيجة هذه التجربة كل مساوئ النظام الرأسمالي المشلول والمتمثل في رفع مسؤولية الدولة عن التدخل في التنمية الاقتصادية، صاحبه تدهور في جهاز الدولة في تقديم الخدمات مما قاد الى تفشي الفساد بين المسؤولين في قطاعات الدولة. وهذه الحالة ليست شاذة في مسيرة الدول والأمم التي مرت بحروب واحتلال وما صاحبه من انهيار اقتصادي وعدم استقرار سياسي. فلنقارن ما بين ما يجري للعراق وما مرت به دول أخرى لنستلهم منها عبر مما قامت به في السيطرة على الأزمات الاقتصادية والسياسية. وبما أن العراق أخذ منحى اتباع منهج اقتصاد السوق، فخير مثال هنا هو دور الدولة الرأسمالية الأم، وهي جمهورية الولايات المتحدة الامريكية.
روزفلت وإنقاذ النظام الامريكي:
انتدب الرئيس روزفلت خططه الاقتصادية من نظرية “كينز” التي تقول أنه في حالة الكساد الاقتصادي فأن الدولة يصبح لها الدور الرئيسي المحرك لعجلة الانتاج من خلال مشاريع التنمية في القطاع العام، ولا يمكن للاقتصاد المتوقف أن ينهض بدون دور مباشر وفعال من قبل الدولة في حركة الانتاج وتقليل نسبة البطالة بين العاملين. فكما أن السيارة المتوقفة عن السير تحتاج إلى شرارة كهربائية لتشغيلها، فأن الاقتصاد بدون مشاريع تنمية في القطاع العام والبنى التحتية وبرامج مساعدات خاصة وعاجلة لرفع المستوى المعاشي للمواطنين لا يمكن لهذا الاقتصاد المتهور (أو المتوقف) أن ينهض وينمو بصورة طبيعية. فجاء خطاب روزفلت كما لو أنه يدعو إلى إتباع البرامج الاشتراكية أو الراديكالية-الثورية.
ما هي هذه البرامج التي استحدثها روزفلت في امريكا من خلال سياسة الإتفاق الجديد لرفع المستوى المعاشي للمواطنين. لقد حدد روزفلت ثلاثة أسس لبرامج “الاتفاق الجديد” التي تعهدت بها حكومته لتنفيذها، وهي:
عمل إصلاحات جذرية في النظام المالي.
القيام بنهضة تنموية في الاقتصاد.
تقديم المساعدات المالية للفقراء وإيجاد فرص عمل للعاطلين.
من اولى هذه البرامج كانت الحيلولة دون انهيار النظام المالي والمصارف وسوق الاسهم والبورصات. لقد أصبح البنك المركزي عندهم حينئذٍ (وعندنا الآن) عبارة عن شركة تتخذ من الأموال سلعة للإتجار بها من أجل أن تجني مؤسسات الصيرفة والبنوك جني الأرباح نتيجة تبادل العملة. وعندنا، سمح النظام المستحدث بعد 2003 أن تقوم المصارف ببيع الأموال بسعر يتذبذب كغيره من السلع والخدمات، وتتقاضى لقاءه أي ربح مالي مغري.
وفي مجال مشاريع النبى التحتية، وضعت الدولة خططاً تنموية لمشاريع كبرى للبنية التحتية والتي منها بناء سدود عظيمة ذو محطات توليد الطاقة لإنارة القرى والأرياف في جنوب البلاد، وتأسيس أكبر شركة للطاقة في افقر مناطق امريكا لتوليد الطاقة الكهرومائية.
أما في مجال المساعدات المالية وتشغيل العاطلين عن العمل، استحدثت برنامج ايجاد فرص عمل للملايين من خلال تمويل مشاريع زراعة الاشجار والحقول لمنع التصحر وحفظ الإراضي الزراعية، ويـُعد برنامج العمل هذا هو الأول من نوعه لإيجاد فرص عمل للعاطلين يدار من قبل الحكومة. هذا بالاضافة تأسيس برنامج العمالة المؤقت الذي اسُـتحدث لإيجاد فرص عمل قصيرة الأجل لتشغيل العاطلين في شتى قطاعات الإنتاج والخدمات. وكانت من كبرى برامج روزفلت “الاشتراكية ” المنحى والتي ما زالت سارية المفعول حتى يومنا هذا هو استحداث ما يعرف بـ “الضمان الاجتماعي” وهو برنامج دفع رواتب التقاعد لكل العاملين في الولايات المتحدة (إن كانوا عاملين في المؤسسات الحكومية أو الأهلية). ويكلف هذه البرنامج الآن حوالي 25% من ميزانية الحكومة الامريكية سنوياً، ويعد أعظم تكلفة من كل من ميزانتي الدفاع والحرب مجتمعتين.
وإذا كانت سياسة روزفلت من خلال برامج “الإتفاق الجديد” قد أهلت الإرضية لتدخل الدولة في رسم السياسة الاقتصادية في النظام الرأسمالي، حيث تم من خلالها وضع يد الدولة على المؤسسات المالية ومراقبة المصارف الأهلية وتحديد قيمة العملة الوطنية والتدخل لتحديد الأسعار والسيطرة على الانتاج الزراعي؛ فأن سياسة جونسون من خلال برامج “المجتمع العظيم” جعلت من التدخل الحكومي شمولياً في كافة المجالات التي تخص الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد طـُبق هذا كله في دولة قائمة على الأساس الرأسمالي الصرف والبحت وهي المتزعمة للنظام الغربي الرأسمالي القاضي بفصل الدولة عن المجتمع والاقتصاد. وأن ما نراه من تقدم اقتصادي واجتماعي وثقافي وتعليمي جعل من الولايات المتحدة دولة عظمى تراعي فيه الدولة مصالح المواطنين انما يعود إلى تلك البرامج والقوانين التي استحدثتها سياستي “الإتفاق الجديد” و”المجتمع العظيم” التي أهلت الأرضية لتلك النهضة الكبرى في النظام الامريكي من خلال التدخل المباشر للدولة.
وستراتيجية “الإتفاق الجديد” التي سار عليها روزفلت بمضمونها السياسي كانت تعني في ذلك الوقت “عقد إجتماعي” جديد بين الحكومة والأمة من أجل تغيير الواقع الاقتصادي لحفظ مصالح المواطنين. فلماذا لا يكون لنا اتفاق عظيم وعقد اجتماعي جديد لنا في العراق “الجديد”! بين الشعب والحكومة في كيفية توزيع الثروة الوطنية التي تجنى من النفط بالمليارات لرفع مستوى العراق الحضاري بمصاف الدول المتقدمة الآخرى، خاصة وأن الشعب العراقي يمر بأسوء حالة اقتصادية واجتماعية في تاريخه، وعجلة الاقتصاد متوقفة تماماً عن النمو.
الإستفادة من التجربة في العراق:
وأكثر ما يلفت النظر في الساحة العراقية هو أن بعض السياسيين و”فطاحل” الاقتصاد ما برحوا يرددون شعارات “اقتصاد السوق” ويدعون الى عدم تدخل الدولة في التخطيط الاقتصادي بحجة أنه من مخلفات الحكم الدكتاتوري الاشتراكي الذي اتبعة النظام الصدامي. فنراهم يقفون ضد برامج ضمان الحياة المعاشية للمواطن، أو حماية الانتاج الوطني من المنافسة الاجنبية أو مساعدة المنتجين الصناعيين المحليين، أو تفعيل شركات القطاع العام ومحاولة خصخصتها أو تحريك الاقتصاد من خلال مشاريع البنى التحتية الكبرى. وحجتهم فيها انما هي تتعارض مع مبادئ اقتصاد السوق الحر ومخالفة للعقود والمواثيق الدولية الملزمة على العراق من قبل المنظمات الدولية كصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية.
إن للحكومة دور مهم في حياة الناس، ولا يمكن تقليص دور الدولة في مجمل الحياة الإنسانية فدورها محوري لا يمكن تهميشه، ولها دور مهم في تنظيم امور الحياة الاقتصادية ومسؤوليتها الحيوية في تقديم الخدمات للمواطنين.
كما أن للدولة مسؤولية رفع المستوى المعاشي للمواطن من خلال برامج التكافل الاجتماعي من أجل القضاء على الفقر حتى تكون هنالك شريحة واسعة من الشعب لديها الإمكانية المالية للشراء واستهلاك الانتاج الوطني الذي يوفره القطاع الخاص. فالمال لا ينساب بصورة طبيعية وتدريجية من المستثمرين الأغنياء إلى الفقراء والكادحين، بل لا بد من استحداث خطة متكاملة تشمل ايضاً رفع كفاءات الموارد البشرية. فقد مر الشعب العراقي من عزلة تامة نتيجة الحصار الدولى على العراق في عقد التسعينيات من القرن الماضي ادت إلى تدهور المستوى الإنتاجي للطاقات العاملة وتردي مستوى الكفاءات العلمية في العراق والتي هي أساس اي نهضة اقتصادية في اي بلد.
وفي خضم هذه الإزمة الاجتماعية-الاقتصادية فأن العراق بحاجة إلى تقوم الدولة بدور كبير في تنمية الوضع المتردي في كافة الميادين الإنتاجية والخدمية رغم ما يواجهها من المشاكل الأمنية المزمنة والسياسية المستعصية. فماكنة الاقتصاد العراقي لا يمكن أن تبدأ بالحركة بدون دفع وإرشاد وتخطيط مباشر من قبل الحكومة. وعليه فإن الاستثمار الحكومي في القطاع العام حتمي في هذه الفترة لحين نمو القطاع الخاص لتحمل مسؤولية التنمية.
وبإختصار، (وهو ما قمت بطرحه في اجتماع الدول المانحة في البحر الميت في عام -2005 ) بأن التنمية في العراق تستند على أربع محاور:
لا يمكن أن يكون هنالك استقرار أمني بدون حل لمشكلة البطالة
لا يمكن أن يكون هنالك دعم للعملية الديمقراطية بدون تحسين الخدمات والحياة العامة للمواطنين
لا يمكن أن يكون هناك نجاح للنظام الفيدرالي بدون لامركزية إدارية (وليست سيادية أو سياسية) للحكومات المحلية وإلتزامها بتقديم الخدمات للمواطنين
ولا يمكن أن نرى نمواً للقطاع الخاص بدون استثمار كبير وشامل للبنى التحتية من قبل الدولة
فمن أجل دفع عجلة الاقتصاد العراقي نحو التنمية والإنتاج هو العمل على إيجاد موازنة بين خطط التنمية الطويلة الأجل وبين البرامج القصيرة الأجل، وهذه الخطط عليها أن تكون مستندة الى رؤية اقتصادية واجتماعية واضحة المعالم عليها أن تحظى بالقبول الشعبي الواسع. خطط التنمية الطويلة الأجل عليها أن تكون قائمة على تدخل الدولة في الإستثمار في مشاريع البنية التحتية الكبرى وخاصة في قطاع المواصلات والموارد المائية من أجل إعطاء جرعة حياة لدفع حركة الاقتصاد الوطني، يصاحبها تنفيذ سياسيات اقتصادية قصيرة أجل التي ترفع من مستوى كفاءة الخبرات البشرية والطبقة العاملة في العراق (عن طريق تحسين المستوى التعليمي والمهني) بالإضافة الى زيادة الدخل المعاشي للطبقات الفقيرة والكادحة من خلال المساعدات وبرامج توزيع الثروة لتحقيق العدالة الاجتماعية.