19 ديسمبر، 2024 5:00 ص

أسطورة ولحن أزلي

أسطورة ولحن أزلي

تفارقني القدرة على التذكر ولا طاقة لي بالاحتمال أكثر .. والخوض في خبايا الذاكرة المدغمة في تكنيك العصر الحجري الهمجي حيث الإبادة بالجملة
_ لسنا بصدد العنصر المتفوق  والــ ..         
 ­ ­_ هراء ..هراء..كله.
تعفرت الأرض بالرماد .. والدماء وقطع الحديد وأجواء تضج بدخان لم نألفه قط .. وشمس لا تفتأ  من أن تشرق حتى تعانــقها ألسنة النار فتغيبها سحب الدخان   
_ أصبحت الأرض أكثر خصوبة .وها هي تصلح لشتى المزروعات .
يا أخي الم اقل لك الخوض في تفاصيل معقدة يتعبك .من العنصر المتفوق والآلة الحربية والتكنيك العسكري إلى الإلفة والزراعة . . أن هذه الأرض أصبحت ملعونة .
طفل يبكي في شارع فاقد لسمته كشارع  ( لوث هدير الآلة الحربية معالمه ) وآخر ( صبي ) يلم الظروف الفارغة .. يباهي زملاءه بعددها .
وهناك عندما توغلت أكثر بين أروقة المكان ورعوية الزمن الغابر . لم يكن متسعا من الوقت للتفكير والعودة للزمن الحاضر ، حيث انخراط الزمن يشبه انـثيال الماء من غيمة في لحظة عابرة . صرخ رجل في زمن الحرب نحن بحاجة إلى سلام يا حبيبي .. وشعر آخر بثقل المفردة ، وجد  متنفسا للأمل الناضب فابتسم بجذل عفوي وشعت الفرحة من روحه متألقا  لقد كان في موضعه مزروعا ، على أمل إطلاق صافرة إنهاء المباراة ، أما أن تنتفض الروح إجلالا لباريها، باطلاقة أو شضية   فهذا قدر محتوم .
لقد ضاعت سبل التذكر.. والصباحات تبعث على الأرق ، واللحن يراودني في عتمتي .. في فرحتي وحزني .
_ سوف اذهب
_ وأين تذهب ؟
– أي مكان في ارض الله الواسعة .
_ سوف تنسانا .
_ سأحتـفظ بصورة من الألبوم معي .
_ دراستك ، شهادتك ،  تجوالك حول العالم
– كلها مع الريح  الآن  مستعد للعمل حتى في المراحيض ، من اجل … واصطفق الباب . أربعة سنوات انقضت ولم ينبثق الفجر الوليد .
تماما كما قالت تنسانا .
_ أحاول أن لا أنساكم . واعدت الصور إلى جيبي .
عمان ، طرابلس ، اليمن ثم عمان . وكانت الثمار المزيد من التسكع ، المزيد من الغربة لقد كان مع إرهاصات الحياة حلوا تقصد مكانا لغرض الدراسة والنزهة معا . أما أن تقصده لغرض العمل فانك لن تجد من مفاتنه سوى المصانع والمزارع والدور الناشئة .
في غرفة منزوية قليلا من اصل خمس غرف في بيت أصلا منـزوٍ . عبر رواق مغلق كنا نحن العراقيين  ، بأمتعتنا البسيطة والتي جل ما فيها ، الصور التي كنا نحتفظ بها للذكرى ..
     الحياة كالقاطرة فهي لا تلبث في محطة حتى تغادرها . انقلب حسن على جانبه وكان فراشه قربي،   فيشعرني بهويتي التي أكاد افقدها بين عشية وضحاها .  – ومتى   تذهب إلى السفارة .؟
_ عندما تضيق بي الواسعة . 
_ الم تقل انك تريد اللجوء ؟.
_ في الوقت المناسب . رايته كيف اندس تحت الغطاء الثقيل بعد أن أطلق مفردتين مبهمتين ولم استفسر المعنى . وجدت نفسي ذلك اليوم ارتعد من البرد رغم الأغطية الكثيرة حيث تساقط  الثلج بغزارة . وكانت نتف منه قد وجدت منفذا لها من فتحة في النافذة المغطاة بالورق المقوى .
كان الصمت يضفي صمتا إضافة لصمتنا والبرد الذي تملك عضا منا .
_ أنا سوف أعود .
-إلى العراق ؟    
 
وهو ينفث دخان سيجارته  (اجل )
_ أما أن فسوف انتظر ، حتى يأذن الوقت ، إذ إن العودة تؤرقني بقدر ما يبعث الاغتراب من أمل نحو الغد الجديد .
_ أصفي أموري خلال الأسبوع .. وأدار ظهره مندسا تحت الغطاء . ثوان واستغرق في نوم عميق ..سمعت أنفاسه ومن ثم تنهداته وهمهماته في الأحلام .
    مسكين يا أخي العراقي دوما في موعد مع التعب والغم وعلى كاهلك المثقل بالهموم .. هموم .
طيف من الأرق يراودني وبصري مصوب على قبس من النور تتنفسه الغرفة عبر الشقوق الموسومة أعلى الجدار الفاصل بين الغرفة المجاورة شعرت وأنا في تلك اللحظة كما لو ان قوة عجيبة قد رفعتني لقدمين او ثلاث عن فراشي .وقد تسمرت لساعة او أكثر انشق من ذلك الشعاع المتسربل الأمل. والنـزر اليسير من السعادة المشفوعة بنسيم الوطن .
كابوس مزعج شتت أحلامي وطال سعادتي . أين انا ابحث عن مأوى .. وبلاد الغير المأوى .صرخ  واحد وهنا أيضا أنت غريب .كان حلما عجيبا ، صور المزيد من معالم بلدي لكن بأسماء ووجوه مستعارة ، واللحن كان له صدىً مؤثر توزع في جسدي كأنه انا او ظلي الذي لا يتخلى . لو علمتم بان هنالك شمس تذكر بالحرية .
يا الله , كما قال سمير : شهر وبعده تنسى ، تجرفك تيارات الحياة .
– رافقتك السلامة يا أخي .. اقترب مني والدمع  يترقرق  في عينيه .. احتضنني . حاولت ان ابدي الكثير من التجلد .. دون جدوى بكيت كما هو فعل ..
– هذه الرسالة الى أهلي ومعها هذا المبلغ من المال . ثم ودعني مرة أخرى، معربا عن ذهابه . تحرك بضع خطوات .. لوحت له عند الباب الخارجي ..تعود ؟ .. متى تر جع ؟ ..
    جاء الصوت خفيضا (لا ادري)  . فقدت نصف الأمل في العراق وحاولت ان أحافظ على ما تبقى من النصف الآخر في تجوالي وسفري وها ان الآن افقده . ( غادر حسن ) كادح مثلي آثر ان يقطف ثمار تعبه بعيدا عن ضيق الأفق ، وظلم الآخرين . لكنه عاد من  حيث أتى .وانا أتشبث بقوة لثورتي التي أعلنتها على صعيد نفسي وهكذا ورغم الشعور بالخسارة الكبيرة والجور بقيت في الغرفة التي استأجرناها سوية في البيت الذي يضم خمس غرف تشبه الى حد ما  بيوت الدعارة ، من حيث التصميم والحقارة ..
_( اذهب يا خوية الى هولندة او فضهة . )
_ وكيف يتم ذلك .؟             
– السفارة  .
 السفارة ؟.. السفارة السفارة  أرقتني كثيرا ذلك اليوم وبقيت يقظا حتى الفجر ، ثم غالبني النعاس فنمت بجفن أثقله التعب والوسن .
أدركت الصباح وثمة عمل يجب ان أؤديه . وأجلت موعد عملي الذي صيرني خشنا بعروق بارزة على ضهر الكف .وانطباعات كثيرة عن معاناة الفرد العامل المغترب .
الشمس ناعسة أول الأمر ترسل خيوط شعاعها الذهبي باحتراس شديد تعانق الارض ..حاولت ان اكتشفها . وان أحييها أكثر من تحية ، كانت تذكر بالصباحات الجميلة . وعلى خلاف الصورة التي رسمتها ليلة البارحة . السفارة كانت تغص بطالبي اللجوء من حيث لا بلد يستقبل لاجئين .. معظمهم من العراقيين ..
_ ماذا ؟ هذا اول يوم ؟ سنة . سنة كاملة اراجع اليوم ، غدا , وبعده دون جدوى وانت  اليوم تريد …  تركته وسط شعور بالخيبة تسلل..دوائر كبيرة مفرغة في طريق العودة ترتسم . تعرب عن إخفاقي وتخبطي على درب الحياة . ولحن ريفي حزين ينزف من كمان . يفضي بسر دفين ، أترنم به . وجذاذات من الأوراق اليابسة على الارض تجرفها الرياح . تجمعها عند الزوايا المثقلة بالاكياس البلاستيكية والأوساخ ، لماذا يا ترى الإنسان يتعذب . يحمل عذاباته ولا ثمة من يشاطره إياها ولائحة من الأحزان موسومة على جبينه .
الحياة أسطورة او حكاية سرعان ما تبدأ ، حتى تنتهي ، وتنـزف حتى يبرأ جرحها .. وتنثال كرعد عاصف حتى تستقي الارض منها . ها هو الخريف أتى بمسحةٍ كآبية . تجف الأوراق حتى تسقط ، وتختفي الشمس حتى تهيئ الشتاء بعده . انقضت تسعة اشهر على عودة حسن كأنها الأمس القريب . وانا أيضا الفت فراقه .
 لا اقول نسيته لان الصديق الحق أبدا  لا ينسى .
عامان ونحن نشغل نفس المكان . نأكل سوية ننام سوية ، نتـناصف أوجاع الغربة سوية .تسلمت خمس رسائل من عائلتي في الفترة المحصورة بين عودة حسن وحتى هذه اللحظات  .. ففي ثلاث منها تحثني والدتي على العودة والاستقرار. ماذا اقول لها كرد  للرسالة ابحث عن لجوء إنساني فبي انسانية صماء ،  صار ريع الفقير فيها من كيس الرعاع وشذاذ الآفاق .
_ ما هي مآثرك  السياسية ؟.. صرخ رجل كان على رأس من تجمع هناك قرب السفارة . إنسان عراقي مضطهد كسواه ساقته مصيبته لطلب اللجوء كأقوى ( لا ) يمكن ان يجاهر بها . نظر إلي والى الآخرين كأننا الذين نزاحمه في طلب اللجوء .
_ ولماذا لا تطالب بحقوقك في بلدك . تظاهر.. ، عارض .. نظرت اليه ثم صرّحت : فعلا كان يجب علي ذلك . .
تواردت إلى ذهني فكرة المواخير فلم تكد تطرق راسي حتى اختمرت لقد كان الشوق في الذهاب اليه اكثر من … تلك حال السفارة ايضا ..
لماذا رجع حسن ،كانت أواصر غريزية متجذرة بأولاده وزوجته في رسالة بعث بها بعد مرور أكثر من سنة كان يقول بانه قد رسخ وجوده هناك عندما فتح ورشته الخاصة بتصليح السيارات .
ومن جانب اخر ذكرتني امي في رسالة بان عمري تجاوز الأربعين . .  كان العويل يملا ثنايا الفراغ لكمان تنـزّ من أوتاره تبكية على درب الحياة  لأمل فقد على هامش السيرة الذاتية للحكام الناقمين المعززين فواصل الوهم ، والتفرقة بين البعيد، وبين القريب وبين الغني ، وبين الفقير وبين استبدادهم وظلم الاخرين وفي دفقات اللحن الاخيرة .. ارهفني سماعه ،وأصخت اكثر ، كان ينث بهدوء يتسرب مثل الريح وهي تصافح ثملا شاقه ان يترنم باغنية ويدمدم بلحنه  الأزلي عندها تذكرته .. كان صدى لضربات السنين على اوتار الحياة .
 يا الله .. لقد كانت خسارة فادحة ..
 والضريبة كبيرة ..كبيرة جدا .
 ضمن مجموعة المصور وقصص اخرى

أحدث المقالات

أحدث المقالات